مقالات

“اللامركزية الإدارية ودورها في التنظيم الإداري” بقلم : د. طالب بن خليفة الهطالي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصبحه ومن والاه، ورد أن القاضي عبدالرحيم بن علي البيساني قال: “إني رأيتُ أنه لا يكتبُ أحدٌ كتاباً في يومه إلا قال في غده، لو غُيِّر هذا لكان أَحسن، ولو زيد هذا لكان يُستحسن، ولو قدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِبر، وهو دليلٌ على استيلاءِ النقص على جملة البشر”، ولا ريب أن الوظيفة تكليفٌ ومسؤولية قبل أن تكون نفوذاً وسلطة وواجب وطني، وهذا ما بيّنه المشرع في المادة (12) من النظام الأساسي للدولة “الوظائف العامة خدمة وطنية تناط بالقائمين بها، وتستهدف موظفي الدولة في أداء وظائفهم للمصلحة العامة وخدمة المجتمع، والمواطنون متساوون في تولي الوظائف العامة للشروط التي يقرُّها القانون”، فقد قال الحق سبحانه وتعالى: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ تأكيداً على أن العمل فريضة لا تقلّ مستوى عن العبادة  لما فيها من تحقيق للحكمة وأصل خلق الإنسان.
وإنَّ الناظر إلى التنظيم الإداري يجد أنه أحد موضوعات القانون الإداري، الذي هو بطبيعة الحال فرعٌ من فروعِ القانون العام الداخلي، المنضوي ضمن القواعد القانونية المنظِّمة لتشكيل السلطات العامة وتحديد صلاحياتها وعلاقاتها، وهو من المقومات الأَساسية في علم الإدارة، وشكل من أشكال الإدارة العصرية الحديثة، فمع توسع وتشعب المهام الإدارية المضطَلِعَةُ بها الدول، ورغم حداثة نشأة القانون الإداري ونتيجة للتطور المتسارع في العالم خاصة في الجوانب الإدارية، ومع انتشار العولمة والخصخصة ازدادت الأهمية للقانون الإداري، فأصبح على المؤسسات مواكبة التطور وملاحقة الركب.
ولا يخفى أن التنظيم الإداري أضحى من المواضيع الذي شغل القادة والمفكرين، فمع التزايد الواضح للأعمال وتوسعها كانت الحاجة ملحة لوجود أسلوب تنظيمي يكون المحور في ضبط العمليات بصورة منظمة ودقيقة لتنظيم سير العمل، والتأقلم مع تقلبات العمل ومواجهة مؤثراته، إذ يعتبر التنظيم الإداري من العوامل الرئيسية لضبط العملية الإدارية، فهو يحقق التخطيط المنظم وإنشاء الهيكل التنظيمي للمؤسسة وتحديد أهدافها وبيان الصلاحيات والاختصاصات الوظيفية لها، إذ لا يمكن للعاملين أن يباشروا أعمالهم من دون تحديد نوع وطبيعة العمل وهذا ما يسمى بالوصف الوظيفي، ومنحهم الصلاحيات اللازمة المتوافقة مع بطاقة الوصف الوظيفي وتمكينهم كل حسب المستوى الإداري الذي يكون فيه.
فالتنظيم الإداري يحقق الإستثمار الأمثل للموارد المتاحة (المادية والمالية والبشرية) وصولا لتحقيق هدف المؤسسة، وقياس الأداء العملي والتقييم المستمر ومراقبة مستوى الإنتاجية، ومعرفة مدى المساهة في تطوير الأعمال، فهو عملية تنظيمية توجيهية يسعى إلى استغلال الموراد والطاقات وتوجيهها ضمن أطر معينة إنطلاقا من الهيكل التنظيمي المسؤول عن توزيع المهام والمسؤوليات والسلطات على المستويات الإدارية، كما أنه يسعى لإنجاز الأعمال بأقصى سرعة وأعلى دقة وأقل كلفة وجودة عالية.
فالتنظيمات الإداريَّة هي: الإجراءات التي يتّخذها المسؤولين لإصلاح المنظومة الإدارية وتنظيمها، فإذا ما تطرقنا لتعريف التنظيم الإداري نجد أن هناك فرع آخر من فروع القانون، يأتي مكمِّلا له وهي اللامركزية الإدارية القائمة على تشتيت الصلاحيات ومنح التفويضات المناسبة حسب المستوى الإداري وطبيعة العمل بما يحقق معه إنجاز الأعمال على النحو المطلوب، أما المركزية فنجد أن مفهومها العام هو: التوحيد وعدم التجزئة، وفي المجال الإداري عُرّفت: بأن تأخذ الحكومة على عاتقها إدارة كافة المصالح والمرافق العامَّة، وكافة المسؤولين في المستويات الإدارية الأخرى يعملون تحت إشرافها المباشر، ومعنى ذلك أنه ارتباط تبعية تلك الفروع برباط التدرج الإداري وخضوعها للسلطة المركزية وقواعد وإجراءات واحدة فقط وتكون مركزية القرار والمرجع.
وبالنظر للسلبيات التي ظهرت إبّان فترة تطبيق النظام المركزي الذي نشأَ على غراره في علم الإدارة نظام آخر يطلق عليه اللامركزية الإدارية التي اندفعت إليه الكثير من المجتمعات، الذي جاء بقاعدة تشتيت الصلاحيات وتوزيع المهام والمسوؤليات وتفويض السلطات وتمكين العاملين وفتح المجال لمشاركتهم في اتخاذ القرارات تسيير الأعمال بانسيابية، فلذلك زاد الإهتمام باللامركزية الإدارية في دول العالم المتقدم؛ نتيجة لزيادة التفاعلات بين الأفراد والمجموعات، وتعدد حاجاتهم وتطلعاتهم وتوقعاتهم، وزيادة حجم وتضخّم الأجهزة والمنظمات بصورة مذهلة، فقد ارتبطت سياسة اللامركزية الإدارية بعملية تفويض السلطات على مختلف أنواعها: (التكليف، والتفويض، والتخويل)  في التنظيم الإداري، فكلما زاد تفويض السلطة زاد معه فعالية تطبيق مفهوم اللامركزية، لأن تفويض السلطة أمر أساسي لنجاح أي منظّمة، فهي تعني التوزيع المنظم لمستويات التفويض والتمكين، إذ أنه لا يمكن للإدارة العليا القيام بكافة الأعمال والمهام وتحمل كافة الأعباء دون وجود مساعد.
لقد جذب التنظيم الإداري انتباه الكثير من المنظِّرين والباحثين في مختلف المجالات، حيث أضحى من الظواهر البارزة في المجتمعات الحديثة، ويعدّ التنظيم الإداري قديم النشأة قدم البشرية، فمع تزاوج الأزمنة وتوالد الحضارات، وتغيّر أحوالها، تغيّر معها مفهوم التنظيم من مجموعات صغيرة في أعدادها البسيطة في أعمالها إلى مجموعات كبيرة ومعقّدة، وامتد ذلك إلى الحكومات، فكان لتزاحم الأعمال والنمو المضطرد في عالم التقنية الدور الرئيسي لإنشاء أفرع خارج المركز الرئيسي ومنح الصلاحيات اللازمة التي تمكِّن القائمين عليها من تسيير الأعمال اليومية، واتخاذ القرارات المناسبة بموجب الصلاحيات الممنوحة لهم دون الحاجة للعودة إلى المركز الرئيسي إلا في القرارات والمواضيع الأساسية، ويطلق على هذا العمل بالمصطلح العلمي باللامركزية الإدارية  فهي نقل السلطة وتشتيتها بين المستويات الإدارية المختلفة، وتعزِّز ديمقراطيّة النظام الإداري وتحديداً السلطات المحلية. 
وتعتبر سلطنة عُمان من الدول السَّباقة في تطبيق نظام اللامركزية الإدارية، حيث كانت الإدارة المحلية هي النظام السائد في السلطنة حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي، فمع تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -رحمه الله – الحكم في يوليو عام 1970م كان أول ما شرع فيه هو بناء الدولة العصرية الحديثة، وإعداد الخطط التنموية الشاملة لتواكب النمو والتطور العالمي في المجالات المختلفة، فقد مرّت سلطنة عُمان بمراحل تطوَّر مختلفة في تطبيق التنظيم الإداري في جهازها الإداري من أجل توفير العيش الكريم للمواطن العماني، وتهيئته لمواجهة تحديات الحياة العصرية، ويعدّ الخطاب الذي ألقاه حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -رحمه الله- عام 1970م مخاطبا فيه الشعب العماني، بأنه “سيعمل على جعل الحكومة العمانية حكومة عصرية”، ويعد هذا الخطاب بمثابة الانطلاقة الحقيقية لتحريك دوران عجلة التنمية في السلطنة فقد توالت بعد ذلك التشريعات والأنظمة التي شملت تنفيذ الخطط التنموية، وتوفير الخدمات الأساسية لتلبّي مختلف المتطلبات والجوانب الحياتية من تعليم وصحة وتعمير وتنمية الموارد البشرية وتنفيذ الخطط التنموية المختلفة وغيرها من الخدمات الأخرى، فكان المرسوم السلطاني رقم ( 26/75م) بإصدار قانون تنظيم الجهاز الإداري للدولة المتعلق بهيكلة الجهاز الإداري للدولة بصورته الرسمية، والمرسوم السلطاني رقم (6/91م) باعتماد التقسيم الإداري للدولة الذي حدد بموجبه المناطق الرئيسية والولايات التابعة لها، عقبه إصدار المرسوم السلطاني رقم ( 114/2011م) بشأن اعتماد التقسيم الإداري للسلطنة وتنظيم عمل المحافظين الذي ألغى بموجبه المرسوم السلطاني رقم (6/91م) ووحد مسميات المناطق لتصبح محافظات، وحدّد اختصاصات المحافظين، فقد أعطى دافعا مباشرا ودعامة قوية لتطبيق مفهوم التنظيم الإداري ومبدأ اللامركزية الإدارية، ويعتبر هذا العمل استكمالا لما جاء في المراسيم السابقة، يعتبر ذلك نقلة نوعية لترسيخ القواعد الأساسية لمفهوم التنظيم وخطوة لتطبيق نظام اللامركزية الإدارية.
فالخطط التنموية ليست غاية بحد ذاتها بقدر ما هي وسيلة لبناء الإنسان الذي هو أداتها وصانعها ولا ينبغي أن تتوقف عند مفهوم معين بل يجب أن تسهم في تقدمه وتطويره وتحسين معيشته ليكون قادرا على الإسهام في بناء وطنه بجداره ووعي ثابتين، وهذا ما أكّده سلطان البلاد الراحل -طيب الله ثراه- في خطاباته للشعب على أنهم السلاح الفاعل لديمومة التنمية في البلد، ودعامته الأساسية في البناء والتطوير، فالإهتمام المتزايد بالإدارة والتركيز على تنمية القيادات الإدارية والتنمية المهارات الذاتية وتزويدهم بالدعم والتحفيز والتشجيع المستمر، كل هذا يسوقنا إلى ضرورة تبنَّى المسؤول منهجًا يوفِّر التشجيع والدعم لبناء الثقة لدى العاملين من أجل تحقيق الأهداف المرجوّة.
وللموضوع تتمة في الحلقة الثانية بإذن الله تعالى……..

[email protected]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى