المقالات

“الحكم على الناس بالظَواهِر” بقلم : خالد عمر حشوان

من الأحاديث التربوية الرائعة لرسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام مع أصحابه رضوان الله عليهم والتي رواها سهل بن سعد الساعدي قال: مَرَّ عَلى رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رَجُل، فقَال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَا تقُولُون في هَذا الرجُل؟ قَالوا رأيك في هَذا، نقُول: هَذا مِنْ أشرافِ النَّاس، هَذا حَرِيُّ إن خَطَبَ أن يُخَطَّبْ، وإن شَفَع أن يُشَفَّعْ، وإن قَالَ أن يُسْمَع لِقَولِه، فَسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم، ومَرَّ رَجُل آخَر فقَال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا تقُولُونَ في هَذا؟ قالوا: نَقُولُ واللهِ يا رسُول الله هَذا مِنْ فُقَراء المُسلمين، هَذا حَرِيُّ إن خَطَبَ لم يُنْكَح، وإن شَفَعَ لا يُشَفَّعْ، وإن قَال لا يُسْمَع لقوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لَهَذَا خَيرٌ مِنْ مِلْءِ الأرْضِ مِثل هَذا” (صحيح ابن ماجه)، وفي هذا الحديث قَدَّم النبي عليه أفضل الصلاة والسلام دَرْسَاً عملياً لأصحابه في عدم احْتِقار المُسلم لأخيه وازدرائه أو التقليل من شأنه بمجرد الحُكم عليه من خلال المظاهر الدنيوية والشكل الخارجي. 

وأغلبنا إن لم يَكُنْ جميعنا تَعَوَّدْنا أن نقرأ في كل جُمْعَة قِصَّة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح في سورة الكهف وكيف كان رأي النبي موسى وهو نبي من أنبياء الله في أعمال هذا العبد عند مرافقته له، ولكنه أجابه على انكاره لأفعاله وبَرَّرَ له الأسباب  لأنه لم يَصْبِر على مَا لَمْ يُحِطْ به، كما قال الله تعالى في كتابه {أَمَّا السَّفينَةُ فَكانَت لِمَساكينَ يَعمَلونَ فِي البَحرِ فَأَرَدتُ أَن أَعيبَها وَكانَ وَراءَهُم مَلِكٌ يَأخُذُ كُلَّ سَفينَةٍ غَصبًا ﴿٧٩﴾وَأَمَّا الغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤمِنَينِ فَخَشينا أَن يُرهِقَهُما طُغيانًا وَكُفرًا ﴿٨٠﴾ فَأَرَدنا أَن يُبدِلَهُما رَبُّهُما خَيرًا مِنهُ زَكاةً وَأَقرَبَ رُحمًا ﴿٨١﴾ وَأَمَّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَينِ يَتيمَينِ فِي المَدينَةِ وَكانَ تَحتَهُ كَنزٌ لَهُما وَكانَ أَبوهُما صالِحًا فَأَرادَ رَبُّكَ أَن يَبلُغا أَشُدَّهُما وَيَستَخرِجا كَنزَهُما رَحمَةً مِن رَبِّكَ وَما فَعَلتُهُ عَن أَمري ذلِكَ تَأويلُ ما لَم تَسطِع عَلَيهِ صَبرًا}، ولأن غالب الأحكام تجري على ظاهرها وحالتها العامة، كان لابد من التنبه للقاعدة الحكيمة التي تقول “يُدفع الشر الكبير بالشر الصغير” ومراعاة أكبر المصالح بقبول أدناها، لأن قتل الغلام كان شر ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه أعظم شراً (على سبيل المثل) وهذا ما أنطبق على بقية أفعال العبد الصالح.

لذلك لابد لنا من عدم الاستعجال في الحُكم على الناس بِظواهر الأمُور والأفعال ومُراعاة عِدَّة نقاط مهمة وأهمها:

* تقديم حُسْنَ الظَّن بالناس ووضع أنفسنا في أماكنهم وعدم الحُكْم قبل التَثَبُّتْ والتَبَيُّنْ من الحقيقة والأسباب.

* من أصعب الأمور الحُكْم على الناس لذلك لابد للمرء من التريث والصبر لمعرفة أسباب القول أو الفعل وظروف الحدث والإنصات للناس والسماع منهم لعدم ظلم النفس قبل ظلم الناس حتى يكون الحكم صائبا وحكيماً.

* قبل التسرع في الحكم على الناس لابد للمرء أن يكون الأعلم والأفضل والأقدر أو على الأقل عالماً خبيراً بأحوالهم ومعايشتهم ويعلم حقائقهم فالحكم على الآخرين بغير عِلْم ظُلم عظيم وإتهام للناس بالباطل.

* الحكم على الناس يحتاج شخصا عالماً بطرائق النقد والتي هدفها أن يكون نقداً بناءً لتصحيح الأخطاء ومعالجتها لا الاتهام والتجريح الذي يسبب العداوة والشحناء وحبذا عدم ذكر الأسماء عند النقد مثل قول “ما بال قوم قالوا كذا وكذا”.

* في الحكم على الناس بعد النقاط المذكورة أعلاه لابد من التسلح بالمنطق والتوكل على الله ثم تحكيم الضمير والأمانة التي يُمْلِيهَا علينا الدين الإسلامي ويُغلفها الخوف من الله لِيدْعَمها توفيق من الله في الحكم.

آثار التسَرُّع في الحكم على الناس:- إن التسرع في الحكم قد يتسبب في فقدان كثيرا من الأهل والأقارب والأصدقاء المخلصين والعلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع والقطيعة الدائمة والعياذ بالله بسبب الحكم الخاطئ والواهم المُعْتَمِد على الظواهر وسوء الظن غير المبني على الحقائق، والندم الشديد على ظلم النفس وظلم الناس بسبب هذا التسرع غير المدروس وفقدان ثقة الناس في المتسرع بالأحكام، فقد قال الله تعالى {يا أيُّهَا الَّذِين آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرَاً مِنْ الظَّنَّ، إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْم} وذكر الله “كثيرا من الظن” وليس كُلَّه لأن الظن قسمين أوله ظن الخير وهو المطلوب والآخر ظن السوء وهو المُحَرَّمْ.

علاج التسَرُّع في الحكم على الناس:- يكون العلاج بحُسْن الظَّن وتدريب النفس على التأني والصبر والعقلانية وعمق التفكير ومعرفة بواطن الأمور والأسباب والعوامل المؤثرة فيها والتحقق والتبين قبل إطلاق الأحكام على الناس ودراسة عناصر الإيجابيات والسلبيات في الأقوال والأفعال والموازنة بينهما ثم الترجيح للكفة الأكبر وتقييم كافة الأمور قبل اتخاذ القرار في الحكم على الناس.

وأختم بقصة جميلة أعجبتني عن أحد المُعَلِّمِين الحُكمَاء عندما رأى طالبين من طلابه يتشاجران فأحْضَرَهُمَا لطاولة المُعلم ووضع كلٌ منهما على طرف الطاولة وطلب منهما إدارة ظهريهما لبعض ووضع كرة بنصفين مختلفين من الألوان هما الأبيض والأسود، وقال لهما: اسْتَدِيرا وصِفَا لي لون الكرة فقال الأول: إنها بيضاء، وقال الآخر: حَتماً أنت أعْمَى بل إنها سوداء، فطلب المعلم منهما تغيير أماكنهما فرأى كل منهما ما رآه الآخر وعرف أن الآخر كان على صواب أيضاً، وهو ما يدل على أنه لابد من القرب من الآخرين والسماع منهم ووضع أنفسنا في أماكنهم والتأكد قبل التَسرُّع في إطلاق الأحكام على الناس.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى