“قصة قصيرة بعنوان صرخة امرأة” بقلم : الهام سالم السيابي
أمسكت حنان بحقيبة يدها السوداء الصغيرة المرصعة ببعض اللؤلؤ الأبيض والخزف الملونة لتزيدها أناقة وجمال، وتلّقت هاتفها الصغير مسرعة لتجيب على اتصال والدتها المتكرر ، التي أخذت تصرخ بها وكأنها تراها أمامها ، وأمرتها بالعودة فوراً للبيت ، ولكن حنان استمهلتها قليلاً فهي في دورة تدريبية في مجال عملها، تحدثت حنان بصوت منخفض وهامس لتفهم منها ماحدث وأنها ستحل الأمر عند عودتها للبيت، ولكن ليست والدتها من النوع الذي يأخذ ويعطي في النقاش ، فقالت لها بصرامة : لقد أرسلت لك بالسائق، إذا لم تعودي الآن إلى البيت فاعتبريني في عداد الأموات، لست أمك ولا أريد أن أراك.
وأغلقت الهاتف، كان الغضب واضحاً جلياً في وجه حنان التي طلبت الخروج من الدورة التدريبية لمسألة خاصة، و وجدت سائق العائلة ينتظرها عند البوابة الرئيسية، ركبت بدون أن تبس بأي كلمة، بل كانت الأسئلة والوساوس تكاد تلتهمها، وصلت للبيت وأسرعت بوضع عباءتها ونقابها عند مدخل البيت في خزانة خاصة ورفعت كعب حذائها في صندوق الأحذية الموازي للباب الخارجي لترتدي حذاءً خفيفاً للبيت لسلامة قدميها من البرودة.
تقدمت أمام أمها بهدوء وهي تقول : ماذا حدث يا أمي؟ لما هذا الصراخ؟ كانت أمها في حالة من الغضب الواضح، ولكي تفهم منها ما حدث جلست بجانبها وأخذت الأم تتحدث :
-كيف تسمحين لنفسك أن تقرري وتوافقين على من يتقدم لك بدون علمي؟
-من؟؟
-وكأنك لا تعرفين؟؟
-وهل لي كلمة في هذا البيت؟
هنا هدأت الأم وبدأت في الحديث بهدوء :
-لقد قال بأنه رآك في مجال عملك وتحدث إليك و أُعجب بك كثيراً ويود لو أن توافقين عليه زوجاً
-اسمه (عادل… )!؟
جاءها قبل فترة رجل بهذا الاسم في آخر الثلاثينات ، ملتحي الوجه أبيض البشرة وأخذ يسألها عدة أسئلة عن العمل وهي تجيبه بكل هدوء، لم تخفى عليها نظراته المتفحصة التي أحست بها من رأسها حتى أخمص قدميها رغم ارتداءه لنظارة شمسية ولكنها قد تعودت على تلك النظرات المتفحصة، فكثير من المراجعين لم يتعودوا على الحديث مع المرأة وجهاً لوجه، وخاصة في بلد محافظ، وأهلها من النوع الصارم المحافظ جداً، حتى عندما فرض عدم لبس النقاب في العمل، رفض أهلها ذهابها للعمل، ولكنها اجتهدت و حاولت بعدة طرق أن تفهمهم أنه مجرد عمل، ووسيلة لكسب الرزق الحلال، فهي لا تريد أن تكون تحت سيطرة إخوانها، وخصوصاً بعد وفاة والدها ، أجل إخوانها الذين رفضوا قيادتها للمركبة بحكم العادات والتقاليد وأن البنت الحرة يجب عليها أن تكون ملكة في مملكتها، يا له من كلام منمق ، ملكة في مملكتها ويرفضونها أن تسوق ويحضرون لها سائق (( غريب)) يأخذها لأي مكان تريد، تناقض بالفعل!
بعد خروج عادل من مكتبها ذلك اليوم، سألتها إحدى زميلاتها : ألا تعرفينه!؟
– وهل علي ذلك؟؟
-كنت أظنه من أهلك لأنه سأل عنك بالاسم.
أجل تذكرته جيدا الآن، واحمر وجهها خجلاً، ذلك لم يغب عن أمها التي فهمت أن ابنتها تعرفه.
-لن يحدث أبداً، لن أوافق أبداً على زواجه منك.
-لما يا أماه؟ أهو سكير؟؟ لعوب؟ أو ضعيف النسب أومزواج؟؟ لم أعد صغيرة يا أمي! انظري إلي؟
كانت تشير لوجهها :
-الجمال يذبل والعمر يكبر وقوتي قبل سنين لم تعد مثل الآن، لقد هدني الاعتناء والاهتمام بجدتي ، إلى أن توفاها الله، لم أعد صغيرة، أنا الآن في آخر الثلاثينيات من العمر وكلما تقدم لخطبتي أحد ترفضين، لما يا أمي، لما؟؟
-وهل تبحثين عن زوج؟؟ عساك ما تزوجتي.
-أبحث عن من يسندني عند كبر سني، أنت تزوجت، ورزقك الله بالذرية، وها نحن حولك سند وعون بعد وفاة أبي.
-الله الغني، لديك إخوتك سند وعون.
-بل قولي فرعون، كل واحد منهم متزوج ولديه أسرته الخاصة ونحن لا نخطوا خطوة إلا بعد موافقتهم.
-لقد تعلمتي واشتغلتي ، وطال لسانك على أمك!؟
-لا تظلميني يا أمي فالظلم ظلمات يوم القيامة.
البنات اللواتي في سني تزوجن وأنجبن، والبنات الأصغر مني قد تزوجن ، ماذا يعيبني؟ قولي؟
الكل يشهد بجمالي وأخلاقياتي، تعذبني كلمات من حولي من النساء، كلما ذهبت لمكان، في العمل، في السوق في الأفراح والمناسبات حتى في واجب العزاء وهن يتهامسن : ماشاء الله جمال ودلال ولكن حظها سيئ في الزواج ، لما؟؟ وهل تزوجت ليكون سيء! عقول مسكينة.
صعدت لغرفتها باكية وهي تقول:
-لقد وكلت أمري لله فهو حسبي.
أغلقت على نفسها باب غرفتها، لم تستطع أن تقنع أمها أنها لم تعد صغيرة، وأنها بحاجة لمن يحبها و يكمل معها مشوار حياتها، ولتستطيع أن تنجب وتحتضن طفل من رحمها، وتربيه بما يرضي الله، أي عصبية قبلية هذه التي تقتل حلمها، وأي رفعة ونسب يهدد بعدم زواجها، لقد شرع الدين للإنسان حرية الاختيار، ليس للقبيلة والنسب وأصحاب المال والرفعة، ليس لذوي الجمال والرشاقة، ولا لأصحاب النفوذ ولا للنفوس الضيقة المريضة، ولا للفقير المعدم، الدين جاء ((للتقوى)) ، أصحاب القلوب الطاهرة الممتلئة بحب الله، المتمسكة بالدين المستقيم ، والبساطة والحلم والأخلاق الرفيعة، الإسلام رفع أصحابه فكانوا خيرة أهل الأرض، وها هم الآن لا يبحثون إلا عن جاه ومنصب أو مال وجمال.
هي تعرف أنها سلّمت أمرها لله ولكن أحياناً الاختيار ليس بيدها هي لتُسيرّه ولعل في بقائها بلا زواج هو خير لها ، هي لا تعلم الغيب.
َبقيت حنان في غرفتها طول ذلك الأسبوع بعد أن أخذت إجازة مرضية لتستطيع أن تعيد شتات أمرها وترتب أفكارها. لقد وصلها خبر بأن عادل بعد رفض أهلها له، تقدم لفتاة أخرى من ابنة عائلة غنية ومعروفة قبلت به، لأنه شاب صالح وصاحب خلق ودين. أجل هذا لمن يريد لبناتهم الستر والعفة.
رفعت يديها بالدعاء :
((اللهم أسعدني ويسر أمري مع من تختاره لي)).
أجل ماتزال هناك عقول مريضة تبحث عن صاحب الوظيفة المتميزة، أو صاحب المال الكثير والنسب الرفيع بعيداً عن الأخلاق والقيم الإنسانية.
هل ستبقى هذه المفاهيم والأعراف راسخة في أذهاننا لا تتغير، أم هناك أمل يشرق في الآفاق يزيح هذه النظرة الضيقة عن كواهل أبنائنا وبناتنا.