“الأُمُّ الّتي وضعَها ابنُها في الصّندوقِ الخلفيِّ للسيّارة” بقلم : د. حميد بن فاضل الشبلي
منذُ اللّحظةِ الأولى الّتي وصلتْني فيهَا صورةٌ مُرسلةٌ مِنْ أحدِ الأصدقاءِ، وأنا لا أستطيعُ استيعابَ المشهدِ أو إزاحتِه عن ناظري، فقدْ كانتْ تلكَ الصّورةُ تتحدّثُ عَنْ واقعةٍ ومشهدٍ مؤلمٍ، حدثَ أمامَ أحدِ رجالِ الأمنِ بدولةٍ خليجيّةٍ مجاورةٍ، حينَ شاهدَ ذلكَ العسكريُّ امرأةً كبيرةً في السّنِ تجلسُ في الصّندوقِ الخلفيِّ لسيّارةِ ابنِها (البيك آب)، في حينِ تجلسُ بقيةُ العائلةِ: زوجةُ الابنِ وأبناؤهُ في مقدمةِ السّيّارةِ، مستمتعينَ بتهويةِ المكيّفِ، والاستمتاعِ بشربِ العصائرِ، والاستماعِ لطربِ راديو ومسجّل السّيّارةِ، لذلكَ فإنّ تكملةَ القصّةِ كما جاءتْ مرفقةً مع تلكَ الصّورةِ المُحزنةِ، ذلكَ العسكريُّ أوقفَ السّيّارةَ، وحرّرَ محضرًا لصاحبِها بسببِ مخالفتِهِ لقانونِ الطّرقاتِ، ولمْ يكتفِ بذلكَ مِنْ شدّةِ حُرقتِهِ، وحزنِهِ لمنظرِ تلكَ الأمِّ المسكينةِ، فقدْ قامَ بنشرِ الصّورةِ، وكتابةِ تدوينةٍ على صفحتِهِ بشبكةِ التّواصلِ الاجتماعيِّ، قالَ فيها: أقسمُ باللهِ لمْ يعنِنِي القانونُ ولا النّظامُ عندَما أوقفتُ السّيّارةَ بقدرِ ما تأثّرتُ وبكيتُ على هذهِ الأُمِّ الحزينةِ الكبيرةِ في السّنِّ، الّتي ظهرَ عليها التّعبُ والألمُ، والحزنُ، والهمُّ، للأسفِ الشّديدِ والدتُه الّتي حملتْهُ في بطنِها، وربّتْهُ أحسنَ تربيةٍ يضعُها في الصّندوقِ الخلفيِّ، بينما أبناؤه وزوجتُه في مقدّمة السّيّارةِ، وبلا حياءٍ ولا استحياءٍ.
الإخوةُ والأخواتُ الأعزاءُ: مع تقريبِ الصّورةِ على شاشةِ هاتفي، آلمتْني ملامحُ الأمِّ العجوزِ، وهي تجلسُ في الصّندوقِ الخلفيّ بالهواءِ الطّلقِ، ويداها ممسكتانِ عمودًا؛ لكي تستطيعَ خفضَ رأسِها مِنْ تأثيرِ قوّةِ الهواءِ أثناءَ حركةِ السّيّارةِ، فهل تتصوّرونَ أنّ ابنًا أو بنتًا تسمحُ لهم قلوبُهم، ومشاعرُهم، وإنسانيتُهم، وقبل ذلكَ إيمانُهم بوضعِ أحدِ الوالدينِ في مثلِ هذا الوضعِ المُهينِ، وما أكثرَ ما نسمعُ اليومَ مِنْ عقوقٍ للوالدينِ، ونكرانٍ لفضلِهما، وتفضيلِ الأبناءِ والأزواجِ والزّوجاتِ عليهما، وما كانَ هذا ليحدثَ لو كان لدى الأبناءِ وازعٌ دينيٌّ يذكّرهم بمثلِ هذه المخالفاتِ، فقدْ جاء التنبيهُ في ذلك حينَ أمرَ اللهُ سبحانَه عبادَه بوحدانيتِه إلى الأمرِ بالإحسانِ للوالدينِ: “وبالوالدينِ إحسانًا”؛ فهما السّببُ المباشرُ لوجودِ الأبناءِ في هذه الحياةِ.
وحولَ موضوعِ اليومِ الّذي نجدُ فيه بعضَ الأبناءِ يفضّلُ زوجتَه على والدتِه، أستشهدُ بفقرةٍ مِنْ موضوعٍ سابقٍ نُشرَ لي بعنوانِ: (أيّهما تهوى أمَّك أو زوجتَك؟) ضمنَ إصداري الأوّل ( توعويات ) عام 2017م، ذكرتُ فيه أنّها قدْ تكونُ مقارنةً غريبةً، ولكنّنا حتمًا سنجدُ عدّةَ أطرافٍ في هذا الموضوعِ، فهناك مَنْ سيجيبُ على هذا الطّرحِ بكلِّ ثباتٍ وعدالةٍ، وفي المقابلِ سنجدُ الطّرفَ الآخرَ الّذي ربّما قد يميلُ لأحدِهما دونَ عدالةٍ، إنّنا نتحدثُ عن جوهرتينِ ثمينتينِ، إنّهما الأمُّ والزّوجةُ، وقد حثّ على رعايتِهما وتقديرِهما القرآنُ، والسّنّةُ النبويّةُ، فقد دعا الإسلامُ إلى حبِّ الأمِّ وتوقيرِها في النّفسِ والقلبِ؛ لأنّها أحقُّ النّاسِ بحسنِ الصّحبةِ، ففي الحديثِ الشّريفِ وردَ: “أنّ رجلًا جاءَ إلى النّبيِّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ- فقالَ: يا رسولَ اللهِ مَنْ أحقُّ النّاسِ بحسنِ صحابتِي، قالَ: أمُّكَ، قال: ثمّ مَنْ؟ قال: أمُّكَ، قال: ثمّ مَنْ؟ قال: أمُّكَ، قال: ثمّ مَنْ؟ قال: ثمّ أبوكَ”، كما أن القرآنَ قد حثّ على حسنِ معاشرةِ الزّوجةِ، ومبادلتِها الحبَّ، والثّقةَ، والاحترامَ؛ لقولِ اللهِ تعالى: “وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ” [سورة الروم:٢١]؛ لذلكَ فإنّ العدالةَ الشّرعيّةَ، والأخلاقيّةَ تدعو إلى أنْ نعطيَ كلًّا مِنْ الأمِّ والزّوجةِ حقَّهما مِنْ الرّعايةِ والاحترامِ، وأنْ نبتعدَ عن الظّلمِ، أو إهمالٍ طرفٍ على آخر.
كما إنّنا نختمُ الإجابةَ على طرحِ: أيّهما تهوى أمَّك أو زوجتَك؟ مِنْ خلالِ قاعدةِ وجوبِ برِّ الأمّهاتِ، وعدمِ ظلمِ الزّوجاتِ، فالرّجلُ العاقلُ يقولُ لزوجتِه: إنّ احترامَكَ لأمّي يجعلُك تكبرينَ في عيني، كما أنّ الزّوجةَ النّاجحةَ والفاضلةَ ترى أنّ أمَّ الزّوجِ في منزلةِ أمِّها، فتحترمُها وتخدمُها وتصبرُ عليها، وتعترفُ بفضلِها؛ لأنّها أمُّ الزّوجِ الّذي وهبَه اللهُ لها، لا أنْ تصلَ الأمورُ كما وجدنَاها في قصّةِ الابنِ الّذي وضعَ والدتَه في الصّندوقِ الخلفيّ للسّيّارةِ؛ إرضاءً واستسلامًا لأهواءِ شيطانِه، وتفضيلًا لزوجتِه على مَنْ قامتْ بتربيتِه، في مشهدٍ مؤلمٍ ومخالفٍ لوصيّةِ ربّ العالمينَ: “وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا” [سورة الإسراء:٢٤]، فكيفَ هانتْ عليه أمُّه الّتي تحمّلتْ حملَه، والسّهرَ عليه بعدَ ولادتِه بوضعِها في صندوقِ السّيّارةِ، وكأنّها حيوانٌ، فإنّا للهِ وإنّا إليه راجعونَ.
[email protected]