مقالات

مَاذا بعد رمضان؟ بقلم خالد عمر حشوان

من أعظم المصائب التي أصابت الأمة الإسلامية هي وفاة سيد البشر وأفضل خلق الله على الإطلاق رسولنا الكريم محمد بن عبد الله، مما كان له الأثر الكبير في نفوس الصحابة عليهم رضوان الله في ذلك الوقت، وكان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه موقف عظيم وحكمة بالغة فيها الكثير من قوة الإيمان وثبات العقيدة وتدارك الموقف وهو خير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام وأول من يدخل الجنة بعد الأنبياء في مقولته الشهيرة “أما بعد: مَنْ كَانَ مِنكُم يَعبُد مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم، فَإن مُحَمَّداً قَدْ مَات، ومَنْ كَانَ مِنكُم يَعبُد الله فَإن الله حَيُّ لا يَمُوت”.
ونحن بعد أن مضى شهر رمضان المبارك نقول “من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد فات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت” فهناك الكثير من المسلمين ممن أكرمه الله بِلَذَّة التوبة والعودة له في شهر رمضان وألهمه طريق الهداية والالتحاق بالصلاة في المساجد والصيام والقيام وغيرها من الأعمال الصالحة ويحتاج أن نُذَكِّرَهُ بمقولة سهيل بن العاص رضي الله عنه لأهل مكة حين كادت أن تكون فيهم الرِدَّة بعد وفاة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام “لا تكونوا آخر من آمن، وأول من ارتد” من أجل الحرص والثبات على هذه الأعمال الصالحة التي كانت في رمضان والاستمرار في عبادة الله والتقرب إليه بالطاعات، فرمضان مجرد أياماً معدودات ولكن أعمارنا هي أيضا أياماً معدودات ونحتاج أن نقضيها في عبادة الله وطاعته، فصحيح أن الصوم مكتوب (واجب) على كل مسلم ومسلمة في رمضان (ما عدا أصحاب الأعذار الشرعية) كما قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة-183) ولكنه متاح للمسلم طيلة العام كصيام التطوع وخاصة بعد شهر رمضان كصيام الست من شوال وصيام الأيام البيض من كل شهر وصِيام يوم وفِطْر يوم (كصيام داود عليه السلام وهو أفضل الصيام) وصيام الإثنين والخميس وصيام العشر الأوائل من ذي الحجة أو صيام يوم عرفة وصيام عاشورا أو أي يوم يرغبه المسلم وهي من الأعمال التي احتفظ الله عزَّ وجلَّ بأجرها لنفسه ولم يَذكُرهُ لنا لعظمة أجر الصوم وفضله عنده كما جاء في الحديث القدسي “يقُولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: كُلُّ عَمل ابن آدم لَه إلا الصِيَام فَهُو لِي وأنا أجْزِي بِه” (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه).
أما قيام الليل فهو ليس محصوراً على شهر رمضان، بل هو سنة مؤكدة سواءً أوله أو أوسطه أو آخره (الثلث الأخير) وهو الثلث الأفضل ودأب الصالحين وأفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة كما أخبرنا المصطفى عليه الصلاة والسلام، وقد فَرَّقَ العلماء بين قيام الليل الذي يكون قبل النوم، والتهجد الذي يكون بعد النوم، وقد وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها صلاة القيام عند رسول الله عليه الصلاة والسلام بقولها “مَا كَان رَسُولُ الله صَلى اللهُ عَليه وسَلَّم يَزِيدُ في رمَضَانَ ولا في غَيرِه عَلى إحْدَى عَشرةَ رَكْعَة” (رواه الألباني-صحيح الترمذي)، وقد قال رجل لإبراهيم بن أدهم: إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟ فقال إبراهيم: لا تَعْصِه بالنهار وهو يُقِيمَكَ بين يديه في الليل، فإن وُقُوفَك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف.
ومن أجمل العادات التي كنا نستأنس بها في شهر رمضان المبارك هي قراءة القرآن وتَدَبُّرهُ وهي عادة ليست مخصصة لشهر رمضان فقط، بل إن فضلها عظيم وتأثيرها كبير على المسلم في حياته اليومية طيلة العام فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام “اقرؤوا هَذا القُرآن، فإنه يأتي شَفِيعَاً لأصْحَابه يَوم القِيامَة” (رواه مسلم) وقال عليه الصلاة والسلام “مَنْ قَرأ حَرفاً مِنْ كِتابِ الله، فَلَهُ بِهِ حَسَنَة والحَسَنَة بِعَشْر أمْثَالهَا، لا أقُول آلم حَرْف ولكن ألف حَرْف ولام حَرْف وميم حَرْف” (رواه الألباني-صحيح الترمذي)، وقال الله تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (الإسراء-82) فهو شفاء من الجهل والضلالة وبصيرة ورحمة ونعمة من الله للمؤمنين وخسارة متزايدة للكافرين.
ويجدر بنا في هذا الموقف أن نوضح المعنى الحقيقي لهجر القرآن والذي قد يفهمه البعض بطريقة خاطئة، فقد سُئِلَ عنه الإمام ابن باز رحمه الله فأجاب بأن هَجْرَ القرآن هو عدم العَمُلُ به وليس عدم قراءته باستمرار، وأن الاستمرار في قراءة القرآن مرة أو مرتين في الشهر أو في السنة لا يُعْتبر هجراً للقرآن، وقراءة القرآن سُنَّة، لذلك يُحَبَّذ أن يجعل المسلم للقرآن نصيباً من برنامجه اليومي لِتَدَبُّر معانيه وتَعلُّم تلاوته وحفظه وتعليمه لغيره إن أمكن كما كان يفعل في رمضان وهو دليل على إمكانية ذلك الورد اليومي والمحافظة عليه طيلة العام والعمل به.
وأما الجُود وكثرة الصدقة في رمضان فهي من هَدْي النبي عليه أفضل الصلاة والسلام طوال العام وليس في شهر رمضان فقط، ورغم أنه كان أجود الناس إلا أنه كان أجود ما يكون في رمضان لأنه زمان مخصوص فَضَّلَ الله فيه الأعمال الصالحة والعبادات بأجور مُضَاعَفة لِفَضْل هذا الزمان وأهميته، والجُود هو إعطاء كل ما يجب إلى من يجب إليه، أي أن الجُود أعَمُّ وأشمل من الصدقة، وليس كالسَّرَف المعروف بمُجَاوزة الحَدّ والذي قد لا يُصادف موقعه.
وأختم بإجابة لعنوان هذا المقال “ماذا بعد رمضان؟” وهي رسالتي لنفسي قبل كل من يقرأ المقال بأن نعمر أيامنا وليالينا وشهورنا باستمرار هذه الأعمال الصالحة التي تقربنا من الله والاستفادة من رسائل هذا الشهر الكريم كتطهير النفوس وتزكيتها من الأخلاق السيئة وتهذيبها وتعويدها على الصبر والحلم والجود والكرم والأخلاق الحميدة ومُجَاهَدتها لإرضاء الله والتقرب إليه وتقواه في السِرِّ والعَلن وتلاوة وتدبر القرآن الكريم والعمل به وقيام الليل، والإحساس بالفقراء والمساكين والإحسان إليهم وتَذَكُّرْ نِعَمَ الله علينا التي لا تعد ولا تحصى وشكره عليها والثناء عليه، حيث أن النعم تدوم وتزيد بشكر الله، كما قال تعالى {وإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم-7).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى