مقالات

“الصبر على البلاء” بقلم: خالد عمر حشوان

الصبر في المفهوم العام هو الحبس والمنع، وأما الصبر على البلاء فيعرف بأنه ترك الشكوى من ألم البلوى وعَرَّفه ابن القيم -رحمه الله- بأنه حبس النفس عن الجزع والتسخط وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن لَطْم الخُدود وشق الثياب ونحوها، لذلك سَمَّى الرسول عليه الصلاة والسلام شهر رمضان بشهر الصبر لما فيه من حبس النفس عن الشهوات، في قوله ” شَهْرُ الصَبر، وثلاثة أيامٍ مِنْ كُلِّ شَهْر، صَوْمُ الدَّهرِ” (رواه الألباني وأخرجه النسائي وأحمد).

وهنا يجدر بنا التفريق بين الابتلاء والعقوبة، لأن الابتلاء يقع مع الإيمان والاستقامة على نهج الله وشدة البلاء دلالة على قوة الإيمان وحب الله للعبد ورضاه عنه، أما العقوبة فهي تقع بسبب الانحراف عن المنهج الصحيح والذنوب والمعاصي والعياذ بالله وهي دلالة على غضب الرب وعدم رضاه عن العبد. 

أما أجمل القصص التي ذُكرت في القرآن الكريم عن الصبر على البلاء فهي قصة نبي الله أيوب عليه السلام والذي كان من ذرية إسحاق عليه السلام (وهو أيوب بن موص بن رازخ بن روم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل) حيث ضرب الله به مثلا للبشرية عن الصبر بعد أن رزقه الله النبوة والمال والولد وزين كل ذلك بالصحة لسبعين سنةً قبل أن يبتليه الله أعظم البلاء رغم أنه نبي من أنبيائه، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام عندما سُئِلَ: أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال “الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ عَلى حَسْبِ دِينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حَسْبِ دِينِه، فمَا يَبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئةٌ” (الألباني-صحيح الترمذي).

صَبَر أيوب عليه السلام على البلاء الذي أصابه في جسده من أمراض لَمْ يَنْجُ منها عضواً سوى قلبه ولسانه الذي كان بهما صابراً ومحتسباً وذاكراً لله في مرضه رغم عزوف الناس عنه خشية العدوى وأُخْرِجَ من بلدته ولم يكن يرعاه سوى زوجته الصالحة العفيفة الوفية بعد أن فقد صحته وتساقط لحمه (قيل بسبب الجذام) وخَسِر ماله ومزارعه وأراضيه ومات أبناؤه واحداً تلو الآخر وضَعُفَ حاله وحال زوجته التي اُضْطُرت لخدمة الناس لإطعام نبي مُبتلى وصابرٌ على البلاء، ولكن خوف قومه من انتقال المرض لهم من زوجته، جعلهم يستغنون عنها، فطال عليهما الحال وأكد ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث أنس بن مالك بأن فترة مرضة كانت ثمانية عشر عاماً، فقامت زوجته ببيع ضفائرها مقابل الطعام، وطَلَبَتْ منه الدعاء والتضرع لله بأن يكشف عنه البلاء ويُفَرِّجَ عنه، ولكنه استحى من الله أن يفعل ذلك بحجة أن سنين الرخاء التي عاشها كانت أكثر من سنين البلاء وأن الله ابتلاه لينظر أيصبر أم يجزع، ولما ضاق بهما الحال وأشتد عليه الكرب وحال زوجته التي رأى رأسها محلوقاً ولم تعد قادرة على رعايته، لجأ إلى ربه وهو يعلم أنه ارحم الراحمين كما قال الله تعالى على لسانه في الآية {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأنبياء-83)، وفي هذا الدعاء قِمَّةٌ في الأدب مع الله عز وجل رغم أن أيوب عليه السلام غُمِسَ في البلاء غَمْساً إلا أنه قال “أني مسني الضُرّ” فقط ولم يطلب كشف الضر، وهو أسلوب توسل واستخدام أجمل وأرق الألفاظ مع الله.

بعد كل هذا الصبر على البلاء والأدب في الدُعاء من هذا النبي الصابر قال الله تعالى {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ} (الأنبياء-84)، جاءت البشرى من الله بكشف الضر عنه وشفاه الله من مرضه حتى أن زوجته لم تعرفه عندما رأته، واختلف أهل التأويل في قول الله “وآتيناه أهله” أهم أهله الذين أوتيهم في الدنيا، أم ذلك وعد وعده الله أيوب أن يفعل به في الآخرة؟ فقال بعضهم: إنما آتى الله أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا، فإنهم لم يُرَدّوا عليه في الدنيا، وإنما وعد الله أيوب أن يؤتيه إياهم في الآخرة والله أعلى وأعلم بذلك.

وأختم بالفوائد والعِبَر التي نستفيد منها في هذا الابتلاء العظيم ومنها على سبيل الذكر لا الحصر أن الله هو مالك الأمر ويقضي فيه بحكمته ورحمته، وأن لابد للعبد الصبر على البلاء أياً كان نوعه وأن البلاء يكون على قَدْرِ أيمان العبد بالله، وأن المرأة الصالحة هي جنة الحياة الدنيا وهي التي تُسعد زوجها وتقف معه عند البلاء حتى يُكْشَفُ عنه بإذن الله، وأن الرضا بقدر الله يبعث السكينة في قلب العبد ويزيده إيمانا وصبراً على البلاء، مع وجوب تحري الأدب في الدعاء من الله واللجوء إلى الله إيماناً واعتقاداً بالإجابة مهما طال البلاء، فقد أهْدَى النبي عليه الصلاة والسلام لعبدالله ابن عباس كلمات لها معانٍ عظيمة عندما قال له “يا غلام، أو يا بني ألا أُعَلِّمَكَ كلمات ينفعك الله بِهِنَّ، قُلت بَلى فقال “احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدِّة، إذا سَألتَ فاسْأل الله وإذا اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ بالله، فقد جَفَّ القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يَقْضِهِ الله لك لم يقدروا عليه وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يَقْضِهِ الله لك لم يقدروا عليه، واعْمَل لله بالشكر واليقين واعْلَمْ أن في الصبر على ما تكره خيراً  كثيراً وأن النصر مع الصَبْر وأن الفَرَجَ مع الكَرْب وأن مَعَ العُسْر يُسْراً” (أخرجه الترمذي).  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى