مقالات

“الحوكمة في صدر الإسلام” بقلم: أكرم السلمي

تعاظم الاهتمام في الآونة الأخيرة بمفهوم الحوكمة لدى العديد من المنظمات على اختلاف تصنيفها، سواء كانت هذه المنظمات في دول ناشئة أو متقدمة، حيث يمكن تعريف الحوكمة بأنها نظـام يتـم بموجبـه إخضـاع نشـاط المنظمات إلـى مجموعـة مـن القوانيـن والنظـم والقـرارات التـي تهـدف إلــى تحقيــق الجــودة والتميــز فــي الأداء عــن طريــق اختيــار الاساليب المناســبة والفعالــة لتحقيــق خطــط وأهــداف المنظمة وضبــط العلاقات بيــن الأطراف الأساسية التــي تؤثــر فــي الأداء.


وعلى الرغم من حداثة هذا الموضوع، إلا أن معظم الدول بادرت إلى سن تشريعات تنظم العمل بقواعد الحوكمة والإدارة الرشيدة لقناعتها بأنها باتت تشكل الترياق الشافي ضد الفساد، وتضمن نزاهة المعاملات المالية، وتضع الحدود بين الحقوق الخاصة والمصالح العامة. هذا الاهتمام التشريعي لدول العالم المختلفة كان متفاوتاً، إلا أن الإسلام كان سباقاً في وضع النظم والقوانين التي تضمن تحقيق مبادئ الحوكمة المختلفة والتي لطالما نادت بها المنظمات والدول التي تسعى لتطبيقها في السنوات الأخيرة.


إن المتمعن في آيات القرآن الكريم يجد فيها الهداية الشاملة، وكذلك مبادئ الرشد في التصرفات، والصلاح في القرارات، وهي تتمثل أساساً في قواعد الحوكمة، كما أن رسولنا حث في توجيهات كريمة عديدة على أهمية تطبيق مبادئ الحوكمة، كالأمانة والعدالة وغيرها.


إن الحوكمة في نظر الإسلام هي: نظام من نظم تكوين المجتمع الراشد، ولا بد حتى يتحقق التأثير المطلوب لها أن تتكامل معه نظم أخرى تسانده وتحقق فعاليته.


إن أحكام الإسلام كانت دائماً تحرص وتحث على الرشد والصلاح في جميع الأمور، كما قال تعالى ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا٦﴾ [النساء: 6] ، وقال رسول الله: “ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما” .


فمن مبادئ الحوكمة في الإسلام المساءلة، والتي تعتبر أمراً أساسياً في حياة المسلم والمجتمع المسلم، كما قال الله تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ٢٤﴾ [الصافات: 24] و قال أيضا: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا٣٦﴾ [الإسراء: 36] حيث يمكن أن ننظر للمفهوم الإسلامي للمساءلة من شقين، أولاهما: يساءل فيه المسلم أمام الله عز وجل عن النعم و الموارد المؤتمن عليها، أما الشق الثاني: فيساءل المسلم أمام العباد حول حقوقهم وتنفيذ العقود معهم.
ومن مبادئ الحوكمة في الإسلام الشفافية، وفي هذا الإطار حث الإسلام على الشفافية في تصرفات المسلمين وتعاملاتهم، ومن دواعي الشفافية الإفصاح، كما هو الحال في بيان عيب البضاعة كما قالr البَيِّعانِ بالخِيارِ ما لم يتفرَّقَا، أو قال: حتى يتفرَّقَا، فإن صَدَقَا وبَيَّنَا بُورِكَ لهما في بيعِهما، وإن كَتَمَا وكَذبَا مُحِقَتْ بركةُ بيعِهما (البخاري :2079، ومن مبادئ الحوكمة في الإسلام المسؤولية، كما قال: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” ، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته (البخاري: ٨١).


فالمسلم مطلوب منه تحمل المسؤولية عن كل ما أوكلت إليه من أعمال، كما أنه محاسب عن أي تصرفات يقوم فيها، بما فيها التصرفات عن الغير بصفته ولياً عنهم.


ومن مبادئ الحوكمة في الإسلام العدل والقسط ، كما قال تعالى :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا١٣٥﴾ [النساء: 135] وقال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ٩٠﴾ [النحل: 90]وأحياناً يعبر عن العدل بالميزان ، كما في قوله ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ١٧﴾ [الشورى: 17] فالميزان هنا هو: العدل ، والاعتبار بالقياس الصحيح ، والعقل الرجيح وأنزل سبحانه وتعالى الميزان وهو العدل في القلوب وفي معاملات الناس وحث على خلق العدالة في الحكم ، كما قال تعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا٥٨﴾ [النساء: 58]

ويلاحظ أن مبادئ الحوكمة في الإسلام تتسع لتشمل قيماً ومبادئ لم تتطرق إليها القيم الغربية، والتي اشتقت منها مبادئ الحوكمة المطبقة حالياً، حيث أن الحوكمة المؤسسية الإسلامية تغطي مساحة أوسع من الحوكمة في المؤسسة التقليدية، حيث تتسع التزاماتها لتشمل الموردين والزبائن والمتنافسين والموظفين، وكذلك تشمل الحاجات الروحية بالإضافة إلى الحاجات الدنيوية في المجتمع المسلم.


كل ما سبق يدلل بشكل جلي أن الدين الإسلامي كان الأسبق في وضع أسس وقواعد كثير من الأنظمة وليس أولها نظام الحوكمة، فما سبق ذكره يمثل النزر اليسير من تنظيم الدين الإسلامي لحياة الأنسان في مختلف حالاته وسكناته، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى