الصحةمقالات

“أطفالنا و العالم المفتوح” بقلم : د. وليد الرزيقي “طبيب أطفال”

بينما كنت في عيادة الأطفال يومًا ، تذكرتُ ذلك الطفل البرئ ذو التسعة ربيعًا برفقة والده لمتابعة حالة الصداع المتكرر لأكثر من عامين و التي كانت فيها  كل فحوصاته سليمة ، وبينما أشاطر الطفل الحديث كيف يقضي جدوله اليومي في الإجازة ( فترة الإجازة الصيفية و وباء كورونا) وأنا أُحدِّقُ في عينيه المحمرّتين وكأنه أرهقهما السهر وقلة النوم ، صُعقت عندما قال لي انه اعتاد أن ينام متأخرًا قُبيل الفجر في الثالثة صباحًا بعد عناء صراعه الطويل مع هاتفي الذكي” هواوي ” الذي بصحبته منذ سنتين ( فترة الصداع) بين ألعاب العنف تارة و أفلام اليوتيوب تارة أخرى. كيف لا و الشبكة اللاسلكية (WIFI  ) تتخلل ذلك المنزل في كل بقعة منه فهي الغذاء و الهواء بل هي الحياة .. إذا انقطعت انقطع كل شي ..

ما جعلني أكتب هذا المقال هو عدم اكتراث الأب و إدراكه بما يدور حول هذا الطفل من تحديات  فكان منشغلاً بهاتفه معظم الوقت في العيادة  يتابع أعماله الخاصة ، فكونه رجل أعمال يغادر المنزل باكراً و يرجع ليلاً فهو لا يدري عن تفاصيل حالة صداع ابنه. ما فائدة كل ذلك المال حين يقع هذا الإبن أو تلكم البنت ضحية لأي ذئب بشري أو عصابة منحلة، فالعالم المفتوح أصبح خطرًا يهدد أطفالنا و يهدد حياتهم و يعرضهم لغسيل الدماغ و تشويش الأفكار و جرهم إلى عالم الجريمة و في أحيانٍ كثيرة قد تكون هناك منظمات إرهابية لها أيدٍ خبيثة.

وأخذتني الدهشة أكثر عندما أخبرني هذا البريء  بأن لديه شقيقين أحدهما سبع سنوات والآخر خمس عشرة سنة ( ناهيك عما تحمله مرحلة المراهقة في طياتها من تحديات جِسام) وكل واحد منهم بهاتفه الخاص غارقون  في بحار هذه الشبكة العنكبوتية تائهون بين رياحها العاتية و أمواجها العالية، أياديهم مقيدة بسلاسل لا تنفك عنهم إلا للنوم أو الطعام.. تعصف أذهانهم و تنهك أجسادهم و تضطرب هرموناتهم ( هرمون النمو، و الكورتيزون و الميلاتونين أو ما يسمى بهرمون النوم ) . كيف لا و هم جعلوا ليلهم كنهارهم و نهارهم كليلهم.

في الوقت الذي تدق  فيه الدراسات والمنظمات العالمية المختصة ناقوس الخطر حول استخدام الأطفال المفرط للإنترنت و الألعاب الإلكترونية و وسائل التواصل الاجتماعي  نظرًا لما تخلفه من تهديدات نفسيه و عواقب وخيمة جمّة مما جعلها تنادي بتقليص عدد الساعات التي يقضيها الأطفال أمام الشاشات وجد كثير من الآباء و الأمهات  أنفسهم مرغمين بترك أبنائهم  أمام هذه الأجهزة  بالساعات و الليال في ظل جائحة كورونا و بالأخص في فترة الحجر المنزلي. ليس من الحكمة  في شيء أن نترك هذا الطفل يخوض هذا العالم المفتوح ليل نهار بكل ما يحويه من مخاطر و نحن ننظر إليه مكتوفيّ الأيدي و لا نحرك ساكنًا.   

ندرك تمامًا أن للهواتف الذكية و الأجهزة اللوحية لها وجهها الإيجابي في كثير من الأنشطة. في المقابل و مما لا شك فيه هناك الكثير من المخاطر قد تتركه هذه الأجهزة  في فلذات أكبادنا و التي لا تُحمد عقباها. ‏ فالاستخدام المفرط لها قد يسبب مخاطر جسمية ومنها سلوكية و أخرى أخلاقيه.  نظرا لما تبثه هذه الأجهزة و الهواتف من إشعاعات كهرومغناطيسيه، إضافة إلى التشويش الذي يسببه النشاط الدماغي فإنها  تؤثر في قابلية تكون نوبات الصرع و الصداع المتكرر ( كما في حالة الطفل) و ضعف الذاكرة بالتالي تأثر الأداء المدرسي و زيادة معدل السمنة و آلام الرقبة  .  ومن جهة أخرى أنها تبطيء التطور اللغوي والاجتماعي والعاطفي عند الأطفال ولها صلة بإضطراب فرط الحركة و تشتت الإنتباه وحالات التوحد كما تزيد من اضطراب النوم والتوتر العصبي بفعل المستويات العالية والمتباينة من الإضاءة في ألعاب تلك الهواتف وغيرها من البرامج.  من المعلوم أن كثيرا من تلك الألعاب تحتوي على مشاهد عنف واستخدام الأسلحة ومنها حربية يمكن أن تغير سلوك الطفل فيصبح أكثر عدوانية مع أقربائه وإخوانه. إن إدمان الهواتف الذكية والألعاب الإلكترونية قد تؤثر سلبا على العلاقات داخل الأسرة فيقل فيها التواصل والحوار والأنشطة المشتركة بين أفرادها ناهيك عن الوقت المهدر و استخدام الإنترنت في مواقع إباحية و فيديوهات وأفلام مخلة وبعضها تدعو إلى العنف،  إضافة إلى التواصل مع الغرباء والشخصيات الغير مرغوب بها مما يجعله فريسة سهلة في مصيدة التنمر والابتزاز الإلكتروني من قِبل ضعفاء النفوس و كثيرٌ ما هم في عصرنا هذا.

إذا ما الحل ؟!!

ليس منع الطفل من الأجهزة الذكية حلاً ناجحا ولكن الأهم هو قرب الوالدين والأسرة من الأبناء في كل مرحلة عمرية و توجيههم الصواب من الخطأ، (ليس كما هو الحال مع هذه الأسرة و كثير من الأسر)  فالأب و الأم في وادٍ و أبنائهم الثلاثة في وادٍ آخر محفوف ٌ بالمخاطر.
‏وهنا يأتي دور المربي أو الوالدين في ضبط أدوات الرقابة وسن قوانين في آلية استخدام هذه الهواتف والأجهزة الذكية  “فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته” ، من أهم القيود التي يجب فرضها على الطفل والمراهق في استخدام الهواتف والأجهزة الذكية:
– تحديد أوقات محددة في استخدام الجهاز أو الهاتف النقال ( عطلة نهاية الأسبوع مثلا)  مع وضع ضوابط في الوقت
الاتفاق على مبادئ محددة مع الطفل على ( أخذ الجهاز عنه فترة الليل مع إغلاق الشبكة اللاسلكية على سبيل المثال)  حتى لا يشغله في السهر ليلا.
– ضبط أدوات الرقابة على الإنترنت (هناك تطبيقات متوفرة ممكن استخدامها للتحكم في الهاتف أو الجهاز المستخدم)
توفير الوعي الديني والتربية السليمة للطفل بحيث يكون هو رقيب على نفسه عندما يتصفح الإنترنت  فوسائل التواصل الإجتماعي ليست مثل الخروج من المنزل في أوقات محددة بل أنها وسيلة يخرج فيها الطفل من بيته في أي وقت ويتحدث مع العالم كيفما شاء ، فلابد من توعية الأطفال و غرس الرقابة الذاتية في عقول وقلوب النشأ.
– توفير بدائل ترفيهية غير إلكترونية في المنزل أو خارجه مثل كرة القدم ، السباحة ، مرافقة الوالدين او احدهم لشراء مستلزمات المنزل و غيرها.
– استعن بمجموعة من الألعاب اليدوية التي تنمي مهارات الطفل الحركية والاجتماعية

تشير توصيات الأكاديمية الأمريكية للأطفال حول استخدام الأجهزة الذكية ومشاهدة التلفاز والألعاب الإلكترونية موضحة بعض المبادئ التوجيهية بشأن استخدام التكنولوجيا للأطفال والحد من تأثيراتها السلبية على الصحة و تتضمن الآتي: 
إذا كان الطفل عمره أقل من سنتين لا يسمح له باستخدام الهواتف الذكية أو مشاهدة التلفاز – كونها مرحلة مهمة جدا في تكوين الإدراك الحسي و المعرفي و الإجتماعي و التي لا تقل أهمية عن النطق و الكلام عند الأطفال ، وإذا كان الطفل عمره من ٣ سنوات إلى خمس سنوات من الممكن مشاهدة التلفاز و استخدام الهواتف الذكية بألا تزيد عن ساعة باليوم فقط (مع اشتراطات في نوعية الاستخدام)  ومن ست سنوات فأكثر ألا تزيد عن ساعتين يوميا.
ندرك يقينا أن التصدي لهذه المخاطر من جراء العالم المفتوح و دخول وسائل التواصل الاجتماعي بشتى صورها في عالمنا  لهو تحدٍ يحتاج إلى وقفة و تضافر من كل الجهات. فالأسرة وحدها لا تكفي بالتالي لابد من تفعيل دور وزارة التربية و التعليم عن طريق المناهج الدراسية في أن تنهض بوعي أطفالنا بما يضمن قدرتهم على تمييز الصواب من الخطأ و بناء جيلٍ ذاتي الرقابة.

قد يعبّر إعطائنا لأبنائنا هذه الأجهزة عن مدى حبنا لهم لكن في المقابل يجب علينا أن نُحكّم العقل قبل العاطفة قبل أن يقع الفأس في الرأس. قد يكون هذا الحب ظاهره عدم الإحساس بالتقصير لكنّ باطنه عواقب لا تُحمد عقباها. هناك قصص كثيرة يشيب لها الرأس لا يسع المجال إلى ذكرها و سببها هو الهاتف عندما يصبح أداة في يد الطفل و بالأخص في مرحلة المراهقة.  قد يقول قائل ماذا نفعل في ظل الظروف الحالية في التعليم عن بعد و الدراسة من المنصة التعليمية ، نقول له حتى في ظل  هذه الظروف الإستثنائية و التي قد يعتبرها بعض الآباء شمّاعة في إعطاء أطفالنا هذه الأجهزة الذكية هناك تطبيقات و برامج تساهم في الحد من مخاطرها.

إن احتوائنا لأبنائنا و مشاركتهم معاني الحب بالجلوس و الحديث معهم و الخوض في تجارب الحياة اليومية هي أهم ركيزة في توثيق و بناء العلاقة مع الطفل و اعطائه الثقة المبنية على الرقابة الذاتية و الإشراف الغير مباشر. مشاغل الحياة أبدًا لا تنتهي ، فأبنائنا أمانة ،  فهم انعكاسٌ لنا في كل تعاملاتنا ، و إذا لم نعطهم جزءًا من وقتنا فسيبحثون عن آخرين لسد فراغهم العاطفي حينها سنعضّ أصابع الندم ، فيجب علينا أن نعيد النظر في علاقتنا بأبنائنا حتى لا يتوهون في ظلمة هذا العالم المفتوح.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى