“آفة الأحكام – الأخذ بجانب من الحكم دون الباقي” بقلم: د.أحمد بن صالح البرواني
أتشرف بالكتابة إليكم مجددًا، حيث تناولت في المقال السابق فكرًا خالصًا لأعز الرجال وأنقاهم وهو جدير أن يوضع في مناهج التدريس في كليات الحقوق وهي تُدّرس طلابها خصائص القانون، حيث يجب أن يكون القانون في خدمة الشعب، وسنتناول اليوم فكرًا آخر من أفكاره – رحمة الله تعالى عليه- وهو “تقدير الظروف” .
إن الإنسان في هذه الحياة رهينٌ لمتغيرات كثيرة، وفي هذا الصدد كان جدير بالجميع تقدير أن ذلك يوهن قوة الإنسان وربما يدفعه لإتيان أفعال ربما يكرهها ولا يود حتى سماعها، ولكن لكون الإنسان محاط بظروف كثيرة يؤثر ويتأثر بها، لذا ربما قد يأتي الإنسان ما يكرهه من تصرفات.
ولقد تنبه أعز الرجال وأنقاهم لذلك منذُ بداية النهضة المباركة، فقال في خطابه الذي ألقاه لأبناء شعبه الوفي في ٩ أغسطس ١٩٧٠م: “تتجه أفكارنا الآن إلى إخواننا الذين أجبرتهم ظروف الماضي التعس إلى النزوح إلى خارج الوطن، فلأولئك الذين بقوا على ولائهم لوطنهم ولكنهم اختاروا البقاء في الخارج نقول سنتمكن في وقت قريب من دعوتكم لخدمة وطنكم”، وهذه التعاليم التي أقرها وإتبعها أعز الرجال وأنقاهم هي تعاليم توجب دراسة الموضوع من كل جوانبه، إذ أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
لقد تغيرت الحياة وتطورت وتشعبت وأصبحت الدولة وهي حامية للوطن والمواطن وللقيم والمقدرات الوطنية بين طرفي نقيض، فهي إما أن لا تتدخل في تنظيم حياة الناس أو تنظيم بعضًا منها دون الآخر، وبين أن تتدخل لتنظيم شؤون المجتمع خاصة إذا ما علمنا أن هناك من استغل عدم تدخل الدولة لتنظيم أمر ما وخاصة في مجال الأعمال وأتى من التصرفات ما لا يرضاه الله ورسوله ومنهم من اتقى الله في خلقه وسار فيهم السيرة الحسنة، وبالتالي يتوجب عليها أن تضع ما يجبر المخاطبين بالقانون على إتباعه.
وفي ظل نهج معظم الدول بالتدخل ووضع القوانين في مختلف الجوانب، نجد أن معظمها نحى نحو اتباع الحل الجنائي أي وضع عقوبات جنائية وغالبًا ما يكون السجن والغرامة، وقليل منها انتهج وضع عقوبات تفرض عن طريق الإدارة كالغرامات الصلحية وإغلاق المحال وإلغاء المؤسسات.
وفي جميع تلك التوجهات نجد أن هناك اكتفاء بالنظر إلى السلوك فقط، فإن أتى الشخص بالسلوك المجّرم قانونًا توقع عليه العقوبة، ولا شك أن ذلك مخالف لأبسط مبادئ القانون الجنائي وتعاليم الشرع الشريف، وهو لزوم التأكد من توافر أركان الجريمة وشروطها ودراسة ظروف وملابسات الجريمة قبل توقيع العقوبة على ذلك الشخص.
فمن يتتبع خصائص العقوبة يجد أن هناك شروطًا لتوقيع العقاب هي وقوع الجريمة واثباتها على فاعلها وعدم وجود أية موانع قانونية أو إجرائية تحول دون إمكانية توقيع العقاب.
كذلك فإن السياسة الجنائية توجب أن يضع المشرع تفريدًا في العقاب، وهذا الفريد يقصد به أن يوقع العقاب المناسب على الشخص الجاني وفقًا لظروفه وللظروف التي ارتكب فيها السلوك المخالف للقانون، وهذا التغريد قد يكون تشريعيًا يقوم به المشرع نفسه حين يضع حد أعلى وحد أدنى للعقوبة، بل وقد يضع الخيار للقاضي بين أن يوقع عقوبة السجن مثلاً أو أن يكتفي بالغرامة، وقد يكون قضائيًا يوكل فيه المشرع للقاضي إعمال التفريد وفقًا لضوابط معينة بعد دراسة ظروف الجاني وظروف الجريمة، وقد يكون التفريد إداريًا وذلك حينما يعطي المشرع لجهة تنفيذ عقوبة السجن القيام بالإفراج الشرطي مراعاة لأمور محددة أهمها سلوك المحكوم عليه ومدى إمكانية عودته للمجتمع إنسانًا صالحًا وذلك من خلال دراسة سلوكه داخل السجن وإلتزامه بالآداب والقيم وتعامله مع العاملين ومع المحكوم عليهم في السجن مع توافر بقية الشروط الأخرى.
من جماع ما تقدم نجد أن إغفال بعض الأحكام لظروف الجاني وللظروف التي وقعت فيها الجريمة له تأثير على الأحكام القضائية من نواحي كثيرة فمن ناحية القابلية لاستئنافها أو الطعن عليه فإنها تكون قابلة لذلك نتيجة لمخالفتها للقانون، ومن حيث رِضى الناس عنها فإن الأحكام تحوز الحجية لأنه يفترض أن تكون قد صدرت صحيحة متبعة الإجراءات القانونية اللازمة لصدورها، ولكن الأحكام التي لا تراعي ذلك تكون معيبة ويتم انتقادها حتى من أبسط الناس معرفة بالقانون، ولعل الأهم من ذلك أن الناس ستوجه النقد للقضاء لعدم معرفته أو لربما يصل الأمر إلى توجيه ما يشينه كونه مثلاً منحاز إلى الخصم الآخر أو ما هو أبعد من ذلك.
وسيكون للدولة نصيب من عدم الرضى إذ سيوجه الناس بعد فترة انتقاد للدولة بأنها توجه القضاء لذلك أو لأنها تريد تحصيل الأموال من العامة بدون وجه بواسطة القضاء أو ما هو أسوأ من ذلك، وبالتالي ستكون العلاقة بين الدولة والشعب علاقة عدم رضى وعدم قبول وقد تصل إلى مرحلة العداء وهو أمر لا يجب أن يكون مطلقًا لسوء العواقب التي ستقع نتيجة لذلك.
والحمد لله أننا في سلطنة عُمان لا نجد إلا الرضى والاحترام والتعاضد بين الحكومة والشعب لبناء الوطن والحفاظ على مقدراته، فعُمان دولة عربية إسلامية تعتبر القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع كما أن القضاء قد نال شهادة من أعز الرجال وأنقاهم منذُ بداية عصر النهضة حيث قال جلالته -غفر الله له وأسكنه فسيح جناته في خطابه عام ١٩٧٢م: “ووزارة العدل التي هي المحاكم الشرعية وبيت المال والزكوات قد حلت مشاكل كثيرة بالعدل والقسطاس بين الشركات التي تعمل في البلاد والمواطنين وأكدت العدلية أن قضاتها يتابعون قضايا المواطنين وفصلها على نور الشرع وبموجب تعاليم الدين الإسلامي الحنيف”.
مكتب د.أحمد بن صالح البرواني للمحاماة والإستشارات القانونية