” الصوم جُنّة ” بقلم : رمضان زيدان
الصوم فريضة وقائية للإنسان ليس من عقاب العالم الآخر فحسب الذي يتطلب في المقام الأول رحمة الواجد التي وسعت كل شيء بل هو الدرع الواقي للنفس البشرية من الركون إلى هواها ونوازعها ومخلّصها من عللها القلبية ومطهرها من أدرانها وذنوبها العالقة بها فهو العلاج الناجع للعادات والطبائع التي تورد صاحبها موارد التهلكة وتتجلى به من السمات والخصائص ما تحض القائم به على مكارم الأخلاق وتربي في الضمير البشري مُثلا قويمة تردع صاحبها إذا همَّ بتجاوزها ومال نحو إتباع الغي فالصوم حصنٌ منيع يقوّم في الإنسان اعوجاجه ولئن ترك له العنان أهلكه ورمى به في وادي الشرى السحيق فالمرء ينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً والعياذ بالله فهو ينأى باللسان عن النطق بالزور والبهتان وفواحش الألفاظ والصوم أول ما يؤثر يؤثر على لغة الحوار فيجعلها تتسم بالعفة والجدية والرصانة وعلى السلوك الانساني بالاستقامة والقوامة والاعتدال وبذلك يكون له انعكاساً ايجابياً على طهارة القلب تلك المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله .
إن الصوم غايته الكبرى نقاء السريرة وتوجيه النفس البشرية للتي هي أقْوم فجاء ليحررها وينطلق بها حتى لا تظل لغيِّها أسيرة فكان باعثهُ الأصيل لذلك أن يظل القلب دوما في طهارة وسكينة واطمئنان لينعكس ذلك على سلامة الصدر نازعاً منه الغل والحقد والحسد ويصقله بالمحبة والوئام لتظل الروح دائماً في راحة أبدية والنفس في هدأة وارتياح وفي توائم بينها وبين كل مباح من هنا كان لفريضة الصوم ثمة خصائص جعلت لها من الخصوصية في قلوب جماعة المؤمنين ابتداءً من الشعور الإنساني المتفرِّد إلى التفاعل العملي والتحرك الإيجابي ليعمل ذلك الانعكاس الحركي في منظومة تكافلية يحفُّها التراحم وتتخللها المودة وتترابط من خلالها أواصر الركب البشري . إن لفريضة الصوم الجليلة إيجابيات كثيرة تعمل على تنمية الشعور الإنساني بالآخر وأول هذه الإيجابيات التدريب الواقعي على إيقاظ تلك الضمائر من خلال الشعور الحسي بالجوع والعطش والحرمان الذي يعانيه الآخر على وجه البسيطة هنا وهناك على مدار العام كله وليس بالشهر الفضيل فحسب نتيجةً للفقر المدقع من ضيق ذات اليد . إن التوحد الشعوري الذي ألزمت به فريضة الصوم من رضي بالإسلام دينا يخرج بالإنسان من الانكفاء على الذات والطواف حول موائد اللذات إلى استشعار ما يعانيه العالمين من حوله فقراً وحرمانا ليكون ذلك دافعاً له على البذل والعطاء والإنفاق شعاره في ذلك (من مال الله لله) فهناك من يئن من الجوع أنين الموجوع في تخوم القارات والأمصار جرّاء نكبات وكوارث كونية فمن هنا كان للصوم دعوته الإنسانية للشعور بالآخر وكيف يعيش طوال العام في حرمان ونقصان ليتمخض عن ذلك الشعور الإنساني تكافل اجتماعي يجعل من المؤمنين أخوة متحابين بل ويؤلف بين القلوب ليرى العالم من خلاله روعة الإسلام وايجابية عباداته التي تدعو إلى الرحمة في أسمى صورها. فلا نفور ولا غل ولا حقد ولا حسد . إن العبادة التي تسمو بالأرواح وترقق القلوب وتجعل للإنسانية في مُثلها النصيب الظافر والحظ الوافر وتضرب في ذلك المثال المتجرد في العطاء والطاعة والبذل والتضحية ومكارم الأخلاق التي بعث صلى الله عليه وسلم ليتممها لهي الأوْلى أن يحذو حذوها كل صاحب قيمٍ وفضيلة . إن من سمات الصوم العظيمة وحدة الهدف ووحدة التوجه ووحدة الامتثال والخضوع لله فجماعة المؤمنين العابدين تبدأ صومها في ميقاته المعلوم ليس هناك فرق ولا تفرقة فالكل فيه سواء لتتجلى به أروع صور الوحدة والمساواة بين المسلمين في تقديم شعائرهم لله رب العالمين . إن للعبادات في الإسلام طقوس ومشاهد واستعدادات قبل الدخول في إقامتها وأداءها . فالصلاة تستوجب لها الطهارة والوضوء ثم الوقوف صفّاً . صفّا من خلف الإمام في مشهد وحدويٍ جليل وكذلك الحج له من الاستعداد والتَّهَيُّؤُ كالنزول بالميقات وارتداء الإحرام والتنقل بين المشاعر المقدسة في زحف حجيجي يباهي الله به ملائكته الكرام في الملأ الأعلى والزكاة لها نِصابها الداعي إلى إخراج حقوق العباد فيها وذلك من خلال حساب المستحق وصرفه في الأوجه التي أمر الله بها ومن الملاحظ أن كل هذه الشعائر والعبادات لها واقعها الحركي ومشاهدها المرئية التي تراها الأعين وترقبها الجموع ويرى الناس بعضهم بعضاً أثناء إقامة هذه العبادات وتلك الشعائر أما الصوم ليس له هيئة ولا مشهد معين يرى الناس الصائم من خلاله فهو عبادة وفريضة تقام في سرية تامة بين العبد وربه ولذلك خصّه الله تبارك وتعالى بقوله في الحديث القدسي “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به” مع أن العبادات كلها تقام لله والله هو الذي يجزي بها ولكن خصوصية الصوم أنه لا يدخله رياء ولا مفاخرة ولا خيلاء أمام الخلق فمن الممكن أن يراءى الإنسان بصلاته وزكاته وحجه والعياذ بالله لكن سرية الصوم في خِفْيةٍ عن الأعين تجعل له هذه الخاصية وتلك الخصوصية “فإنه لي وأنا أجزي به” ، يا الله وأنا أجزي به فأي جزاء عظيم من لدن رب العالمين الذي أعده لعباده الصائمين وإنه لشهر الرحمة والمغفرة وإحياء للضمير البشري وجلاء لران القلوب وتحريك للمشاعر الإنسانية من كبوتها وإيقاظها من غفوتها لتأصيل هذه الفريضة العظيمة بجلالها وروعتها ومعناها الإيجابي المنشود .وتتجلى في الشهر الفضيل نقاء الروح وصفاء النفس بقربها من ربها بصيام نهاره وقيام ليله وتلاوة القرآن وإخراج الصدقات لخلاص النفس وصقلها من أدرانها وعللها وشفائها من سقمها الروحي. إن الصوم يُضيّق على الشيطان مسالكه ويسدها عليه وخليق به أن يصلح ذات البين فتلتئم الفجوة وتزول العقبة فتعلو به الهمم وتنتعش قوى الخير وتصبح به الروح في أنقى أحوالها وهي تحلّق في جوٍ إيمانيٍ مهيب تعلو بها الفكرة وتغسل في درنها العبرة وتتخلل في وجدانها روائع القدرة .
فالصوم عنان المسلم يروّض به نفسه ويكبح به جناح تمرده ويهذب أخلاقه ويقوّم به اعوجاجه آخذاً بيديه إلى جادة الطريق فهو جُنّة للعبد ومرضاةٌ للرب وحصن حصين من رغبات النفس وهو داعي العطاء والدافع للبذل والسخاء وهو الصوت الجهور داخل الضمير البشري الذي يصدح بمعاناة كل مُعْوِز وهو الذي يؤصّل لإنسانية الانسان من خلال الشعور المتصل الذي ينبثق من رحم هذه الفريضة العظيمة التي منَّ الله بها على عباده فالحمد لله رب العالمين أن حبانا هذه النعمة الكبرى وجعلنا من الصائمين .
…..