“دعاء بلوغ الأربعين” بقلم : خالد عمر حشوان
إن بُلوغ الإنسان سن الأربعين يعني الوصول إلى قِمَّة مرحلة النضج الفكري والفهم والإدراك وتُعتبر هذه المرحلة كافية لاكتساب الخبرات والقدرة على التحمل في الحياة والاستقرار الوظيفي والأسري وتغيير بعض القناعات والأفكار والتصرفات بحيث يختلف فيها عطاء الإنسان ونظرته للحياة وللأشياء من حوله وخاصة نظرته للمستقبل والمصير عَمَّا سبق.
وأما الدعاء فهو عبادة من أفضل العبادات في الإسلام والتي يحبها الله خالصة لوجهه الكريم ولا يجوز أن يصرفها العبد لغيره، وتقوم على سؤال العبد ربَّه والطلب منه، ولهذه العبادة شروط وآداب كثيرة منها الإخلاص لله وسؤاله وحده وبداية الدعاء بحمد الله والثناء عليه ثم الصلاة على النبي عليه أفضل الصلاة والسلام واليقين بالإجابة مع حضور القلب والإلحاح وعدم الاستعجال، والدعاء في الرخاء والشِدَّة وعدم الدعاء على الأهلِ والوَلَد والنفس وخفض الصوت والاعتراف بالذنب والاستغفار منه، وشُكر الله على النِّعَم مع تحري أوقات وأماكن الإجابة وعدم تكلف السجع والخشوع والرغبة والرهبة، (والسجع هو الكلام المقفى ويعني توافق الفاصلتين في الحرف الأخير)، ويُخْتَمْ الدعاء بحمد الله كما قال تعالى {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (يونس-10).
وفي هذا المقال سوف نركز على آية دعاء بلوغ الأربعين التي وردت في سورة الأحقاف وقال الله عز وجل فيها {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (الأحقاف-15).
قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى “حَتَّى إذَا بَلَغَ أشُدُّهُ” أي بلغ ثماني عشرة سنة وقال الشعبي وابن زيد الأشُدّْ: هو الحُلُم وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين كما في قوله تعالى {وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَة}، وقيل أيضا الأشُدُّ: هو الجَلَدُ وهو ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين، وزاد بعض المفسرين إلى الثلاثة والثلاثين (موسوعة التفسير المأثور)، ومعنى “أوزعني” أي ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك وهي الهداية وقيل بالصحة والعافية، {التِي أنْعَمْتَ بِهَا عَليَّ وعَلى وَالِدَيَّ} بالتحنن والشفقة وقيل بالغنى والثروة والقدرة حتى ربياني صغيراً، وقال السُّدي والضَّحاك أن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقال آخرون ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي أستجاب الله له وأسْلَم والداه جميعاً وإخوانه وولده، وقال الحَسَنُ هي مُرْسَلَة نزلت على العموم والله أعلى وأعلم فيما نزلت، وأما قوله تعالى {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} أي أن يكون العمل في المستقبل جَامِعاً لِمَا يُصلحه سَالِماً مِمَّا يُفسده وهو ما يرضاه الله ويثيب عليه، وقوله {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي اجعل الصلاح سارياً في ذريتي راسخاً فيهم وقال ابن عطاء أي وفقهم لصالح الأعمال التي ترضى بها عنهم، وفيه إشارة إلى أن صلاح الآباء غالبا ما يورث صلاح الأبناء، ثم ختم الله الآية بقوله {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} قال في تفسيرها ابن عباس أي رجعت عن الأمر الذي كنت عليه سلفاً، وقوله تعالى {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي المخلصين بالتوحيد الخاضعين لك بالطاعة والمستسلمين لأمرك ونهيك والمنقادين لحكمك، وقال ابن كثير رحمه الله أن هذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين سنة أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله عز وجل ويعزم عليها.
ويجدر بنا التنبيه على أن هذه الآية من الآيات المتشابهات في القرآن الكريم أي التي تحمل أكثر من تفسير كما قال الله في الآية {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران-7).
ومن متشابهات هذه الآية هي قول الله على لسان سيدنا سليمان عليه السلام عندما سمع قول النملة {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (النمل-19)، بل ونصح بعض أهل العلم بدمج الإضافة التي وردت في هذه الآية وهي قول الله {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} على الدعاء السابق في سورة الأحقاف.
وهناك أيضاً آية أخرى في سورة القصص تتحدث عن سيدنا موسى عليه السلام والتي قال الله فيها {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (القصص-14)، وقال بعض المفسرين أن الاستواء ما بين الثلاثين والأربعين، وقال البعض الآخر أن الاستواء هو بلوغ الأربعين، أما عن قوله تعالى {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} فقد قال السُّدِّي: أي فهماً وعقلاً، (موسوعة التفسير المأثور).
أما المتشابهة الثالثة فقد كانت في سورة يوسف عليه السلام والتي قال الله فيها {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥٓ ءَاتَيۡنَٰهُ حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (الآية-22).
وبالعودة لدعاء بلوغ الأربعين فليس هناك ما يُفيد وُجُوبَ هذا الذكر وإنما هو دُعَاء مُستحب، وذكر بعض أهل العلم أنه لا يوجد دعاء واجب سوى طلب الهداية من الله والذي نَقْرَؤُهُ دائماً في سورة الفاتحة مع بداية كل ركعة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، أما الشوكاني فقد قال عن دعاء بلوغ الأربعين “في هذه الآية دليل على أن ينبغي لِمَنْ بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات”.
وأختم بالآية التي تلت آية دعاء بلوغ الأربعين والتي وَضَّحَ الله تعالى فيها جزاء هذه الفئة الصالحة من عباده والتي أسأل الله أن نكون جميعا منها بقوله تعالى {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (الأحقاف-16).