أدبيات

“حصيدة الإدراك” بقلم: رمضان زيدان

بعينٍ من رؤاكِ ثاقبة

تنقّلتِ بين أحداثٍ جسامٍ

 للشرى مراقبة

منفطرة القلب

متوجّسة خيفة 

من سوء العاقبة

وكانت النبوءة صادقة

قبل حاسة البصر 

تقودكِ البصيرة

تروين لنا سيرة

عن ثورة الغبار

 عن قرب الاحتضار

بين أحضان المسيرة الغاضبة

أيتها الحاضرة الغائبة 

تخفّى جحافل العدوان

 تحت أراكهم مغزى

فكنتِ قديرة حسنا 

رمقتِ توالي الأعداء

حين وعيتِ ذاك الحين

من أردى 

حشا الحَوْراء بالإثمد

على مرأى من المشهد

فكان حصيدة

 الإدراك والفطنة

قالوا عنكِ يا هدباء

 جئتِ إلينا بالفتنة !!

وصارت عينك البرجاء

 من فجرٍ إلى ظلماء

وشاب مدارك الإبصار

 شائبة من الأنواء

فما عادت لكِ الرمقة!

برغم فراسةٍ شهباء

وكم حلّ 

من التعتيم والنقمة

فها أنتِ تنبّئتِ ونبّئتِ

 حذّرتِ وأسْهَبتِ

وكنتِ هناك 

لدى الأحداث

تبتدرين 

من أجفانكِ الوطفاء

تبثِ بقادم الأنباء 

عاصفةً من البيداء

فــ أرهصْتِ يا أخت جديس

 استشرفتِ عن العربان

 ما لاقوا من الويلات

وكم أخبرتِ 

عن أعدادهم وعتاد

بما استطلعتِ من حملات

وعنكِ قالت الأبواق

 افكاً بين ما قيلا

وساق الروع 

تعجيلاً من النكبات

فجاء القوم وأذاعوا

رموكِ حينما شاعوا 

عليكِ كذبوا وأشاعوا

 وقد نعتوكِ صابئةً

 وأنتَ النفحة الغيداء 

وصاحوا صيحةً نكراء

 ارجموا من نبأت بالنائبة

على المدى 

بين أنياب الردى

سمعتُكِ تصرخين تارةً

وأخرى تُصرّحين

عن مقتل القمر 

في مرقد الجنين

بين حصنه الحصين

 فوق مذبح العُرى

تنتحبين من بقْر البطون 

من سبي الخدور

من ذبح الرضيع

من خنق الربيع  

في الربوع قاطبة

وذاك أنينكِ المكلوم

بوجد حنينك المصدوم

أيتها الأبية المكرسة

كذا أمعنتِ وتيقنتِ

بزحفٍ يسوم لظى الكارثة

تراءى التصدّع بين الرسوخ

 توالى شروخٌ بصرح الشموخ

وأسمع صوتك المبحوح

أنّات قلبك المجروح

على القسمات الشاحبة

قد ارتسمَتْ وما ابتسمَتْ

والصدى يرتد وقداً حارقاً

بينما الأيام عن صباكِ 

فوق متن للرواحل ذاهبة

ارتويتِ حينها 

من الدم المهراق

وآلم الروح 

عند إسدال الفراق

غيمة الخريف  

يا قبضة الرمال المرمري

بواحة الجمال

يوم أن مر عليك

 موكب الرجال

من عزمه الوثّاب الأبيّ

يلتاع الفتيّ

تراود الأماني 

في ضميره الوفيّ

فعانقتكِ حينها قدماه

كأنه جاء ليبعث

 من خلالكِ الحياة

وكان الموت عندكِ منتهاه

مكفهر الوجه 

مُنكسر القامة

تلاشى عنه ممزقاً

زيُّ الكرامة

وسقطت الرُتب بالمنكبين

مطموسة المعالم والوسامة

وارتسمت على جبينه

على جسده علامة

قسمات الانكسار

 خضبها الدم غلّفها الهم

وكستها الندامة

كان الزحف مقدساً

بالنفير الحُر

كان للرمال بريقاً

مثل حبات الدّر

كان المُضي قُدماً 

مفعماً بالنصر

والأيام حُبلى بالآسر النبيل

كان الوثوب شارة 

لعزمةْ الفرسان

للأمام يستبق

سابحاً لضفة الأمان

كانت الرايات

في سماء المجد عانقها الإباء

شاغفها النسيم

مغرداً لمن فطن

 حُب الوطن

تغريدة بالروح بالدماء

كان الطفل على ذراع أمه 

مُفاخراً أباه

كان الغد الوردي في عيناه

يزدهي مناه

قبل أن يذبل الربيع بغتةً

في سكرة الاحتضار

لترتشف الفراشات

بدلاً من الرحيق في المرار

فلا كلأ ولا ماء ولا حياة

فقد صارت قفار

توارى بين غابات الدخان

في عتمة الليل النهار

وتمادى للرياح العاتيات

صفيرٌ يعكس للصدى خوار

يمجده السامري

من حوله يطوف 

مُكاءً وتصدية

فالبطون خاوية

والقوى منهكة

وجبين الكبرياء 

من تقهقرٍ بكى

مُغْبرُّ الوجه 

مسجّى على راح الثرى

وما أدراك ما الثرى

حينما خالطه الدم

فصار طيناً يحشو الفم

أشلاءٌ ممزقة ملقاة

بأرض التيه والشتات

منثورة في العراء

هنا رأس للشموخ

ملاقاة بالفلاة بلا جسد

هناك ساق بجانبها ذراع

وكفٌ به وشم 

في عين من حسد

معلّق على وجه الحياة

يواري خلفه 

خذلان بني البشر

آفة بالقلوب تنتشر

تردياً إلى الفناء نكبة 

والعدْو صار للوراء

سفهٌ هراء

فالسواد الأعظم 

قد صدّق آمَن

أنه في القلعة آمِن

لم يدري أنها

حوش جزار

 يلملم في القطيع

من أجل تقطيع

الرؤوس التي ترعرعت

وحان وقتها

في ساحة التنكيل

بعدها استيقظ المارد

من سُباته من غفوته

أو إن شئت فقل من غفلته

بقوته الكامنة

حينما تركوه

على خط المواجهة وحيدا

على أرض الألغام قعيدا

وهو مكبل يحبو 

لم يدري من أين لأين

وقد حال عن الركب البين

في دنيا قاحلة ماثلة

على حافة الموت

التصق لسانه في حلقه

من العطش

والجوع في قواه قد بطش

فالأرض ليست الأرض

التي يعرفها

التي أكل من حنطة زارعها

والكعكة من أيدي صانعها

وتلك الأغصان الغضة

ليست هي

الأغصان التي عانقها

وقبّلها من حمرة وجنتها

من مبسم ثغرها العذب

يشم فواح الكد بتربتها

ويداعب سرب عنادلها

عند احمرار قرص الشمس

ليقال عن اليوم الأمس

قد لاقي صغيرة بضفيرة

تغسل وجه عروستها

بالنبع الرائق

ترفرف حول براءتها

فراشات للزهر شقائق

في تلك الغفوة

مر شريط للذكرى

قد راح يداعب في خيالي

بمشاهد أخرى

عن الأرض وكل رقعة فيها

ومن فيها له قصة

كل حبة رمل

قد ضاعت خلّفت الغُصّة

لجذوع الأشجار غمار

ترويها سنين

على الأوراق تدوّنها

على الأغصان

على وجنات رياحين 

على أفرع زيتون أخضر

على سعف النخيل تسطّر

وجبين للعاني المجهد

يتصبب عرقاً يتنهد

من الأهوال

يعجزها وصف الأقوال

وما قد حدث بقلب الحدث

لم يكن رؤيا بمنام

فقد كان كابوساً باليقظة

وفي لحظة

رمق بعينيه سقوطاً دوى

كأن عواصف

قد باءت بقواصف توّا

فها همُ المكبلون ذاهبون 

للأخدود للحتف المميت

مشردون بالفيافي والعراء 

عن الحقيقة ناكبون

  بالدرب المقيت

بغتةً  أفل انبلاج للضحى

ودارت في مسارهمُ الرحى

والهاربون

تركوا المدينة وحدها

كي تلاقي مصيرها

ساعة الطوفان

 قد ركبوا السفينة

أخرجوا ما في نفوسهم الدفينة

من جبنٍ لخذلانٍ لانفلات

متطلعين إلى طوق النجاة

مأفوني العقول

في الشكل والمضمون

تراهم في سعار من جنون 

في ثبور قاموا بالتفافٍ 

حول جيد للأماني كالأفاعي 

حول مكنون المعاني

وغدا كل شئ حولهم 

الى اختلال

مثل عاصوف عدا

من السفح إلى هام الجبال

تنعق الغربان

 في غرابيب السواد

وقد بات الأمان في تباب

في اغتراب

يثور في دوائر الشجون

يدور من فوق الرؤوس خطْبها

ينقض كالمنون

يحصد كل شئ أتى عليه

والنظرة تسبق 

في شرودها إليه

يتسلّق على جثث الموتى

على جماجم الورى

للتخلي عن ساح الوغى

فاعلموا من بانتكاسته بغى

يوم أن لاذ بالهروب

مخلفاً للغاصبين مدفعه

الخوذات قد سقطت

وسقط معها الكبرياء

وعبس وجهٌ للسماء

كما لو كان ساخطاً

على من بظلها احتمى

فاليوم أمطرت

 على الحمى سجّيلها

وغيظها المحموم 

في وجه الغيوم

قد بدا حينما ابتدا 

في اختلاط لون الدم

بماء النهر بحب الرمل

بوجنات الصباح

 بقسمات الطفولة

بملامح الهموم يرتكز

 ووقْع الواقع قد عكس

على صخره المصقول

في ذهول صرخات الأمومة

وجاء من يسومه

من قيظ الهجير

حارقاً فيما ارتأى

وما توارى في ثنايا الأمتعة

فاستبانت العورات

من خلف الحُجب

ها هي الحقيقة تطفو 

على وجه اليم كالغريق

من رضي بذلك أو شجب

حينما غار الشرخ 

في جوف الجدار

وعن الخدور

 سقط للقاع الستار

لم يعد الليل

 يواري سوءتها

يحجب رؤيتها

فالصبح يلاقي ذراريها

بوصمة عارٍ يرديها

تعرّى كل شئ فهوت الأقنعة

ورُفع للفري قبعة

وأجهش الإباء 

من شدة البكاء

لم يُلقي لوماً على 

من بشجاعة المقدام 

يوماً خادعه

ها هو يلوم نفسه

 التي بين جنبيه

 قبل أن يلوم من أسمعه

أقر بالخَطا 

وسارع الخُطى

محملاً بالأعباء

مثخناً بالجراح والانّات

في نفسه الشمّاء

في القامة العلياء

ومن عميق الأحداق 

تسيل أدمعه

وزاغت الأبصار 

من هول الفاجعة

وقد أمض بالقلوب

 خنوعٌ أوجعه

ها هو على الممر المُر

يمضى مدافعاً ودافعاً

 بقوةٍ للعداء رادعة

…..

[email protected]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى