“حالات التعسف في استعمال الحق م 59 من قانون المعاملات المدنية العُماني” بقلم د. مصطفى راتب أستاذ القانون المدني المساعد بكلية البريمي الجامعية
تمحض قصد الإضرار بالغير : يكون استعمال الحق غير مشروع ” إذا لم يقصد به سوى الإضرار بالغير”. وقد لوحظ على هذا المعيار أنه من أقدم معايير التعسـف وأكثرهـا ذيـوعـًا في الشرائع المختلفة، لكثرة تسخير الأفراد حقوقهم منذ القديم لمجرد تحقيق مآرب شخصية في النكاية والإضرار بالغير، وهذا المعيار يعد معيارًا ذاتيًا قوامه توافر نية الإضرار بالغير لدى صاحب الحق، حيث يكون قصد الإضرار هو العامل الأصلي الذي حدا بصاحب الحق إلى استخدام السلطات التي يتضمنها، ولو أفضي استعمال الحق إلى تحصيل منفعة لصاحبه لم يقصدها أصلا، بل ولو كان قصد الإضرار مصحوبًا بنية جلب المنفعة كعامل ثانوي، فمن يغرس أشجارًا عالية في أرضه بقصد حجب النور عن جاره، يكون متعسفًا في استعمال حقه، حتى ولو زادت منفعة الأرض بغرس الأشجار، بل ولو كان صاحب الأرض قد توقع هذه المنفعة، ما دام أن غرضه الأساسي كان الإضرار بالجار.
انعدام التناسب بين مصلحة صاحب الحق وبين الضرر الذي يحيق بالغير، إذا استعمل الشخص حقه بقصد تحقيق مصلحة، ونشأ عن استعمال الحق ضرر للغير، فإنه يكون مسؤول إذا كانت المصلحة التي يرمي إلى تحقيقها تافهة بحيث لا تتناسب البتة مع ما يعود على الغير من ضرر، وتطبيق هذا المعيار يقتضي الموازنة بين الجانبين، ولكن ليس المقصود هو تحقيق توازن كامل،فلا يكفي لاعتبار الشخص متعسفًا في استعمال حقه أن يتساوى الضرر والمصلحة، أو أن يزيد الضرر على المصلحة بعض الزيادة، ففي مصلحة صاحب الحق ما يكفي لتبرير الضرر في مثل هذه الحالات، أما إن رجـح الضرر على المصلحة رجحانًا كبيرًا كان هذا تعسفًا، إذ أن من يقدم على استعمال حقه بقصد تحقيق مصلحة قليلة الأهمية بالنسبة لما يصيب الغير من ضرر بليغ، إما أنه لم يرد سوى الإضرار بالغير تحت ستار مصلحة محدودة الأهمية يتظاهر بالسعي إليها، فتكون تفاهة المصلحة قرينة على نية الإضرار، وأما أنه شخص مستهتر لا يبالي بما تقتضيه ضرورات الحياة في المجتمع، وفي الحالتين يكون قد استعمل حقه على وجه يتعارض مع مصلحة الجماعة.
عدم مشروعية المصلحة المقصود تحقيقها من استعمال الحق،
وتعّبر هذه الحالة عن استعمال الحق بغية تحقيق مصالح غير مشروعة، كرب العمل الذي يستعمل حقه في فصل عامل لمجرد أنه ذو نشاط نقابي، يريد بذلك أن يُحرم عما له من حق خوّله القانون لهم، وكالمالك الذي يحيط أرضه بأعمدة عالية حتى يحّمل شركة طيران تهبط طائراتها في أرض مجاورة على شراء أرضه بثمن مرتفع، وكمن يخصص المنزل المملوك له لمقابلات مخالفة للآداب وكالمالك الذي يطالب بإخلاء المنزل من مستأجره بحجة حاجته للسكن فيه، بعد محاولته زيادة الأجرة فوق ما يسمح به القانون واخفاقه في ذلك.
نظرية عدم التعسف في استخدام الحق في الفقه الإسلامي، هذه النَّظرية مسطورة في صميم الفقه الإسلامي وبارزة في آيات الكتاب وأحاديث السنة بأوسع من معناها في القانون، وهي من المبادئ الكبرى التي حفظت بها الحقوق منذ كان الإسلام.
الأدلة عليها من القرآن والسنة:
-الدليل الأول: قول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾ [البقرة:231]، سبب نزول هذه الآية كما أخرج ابن جرير وابن المنذر، أنَّ رجلاً من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلَّق زوجته حتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُها إلا يومين أو ثلاثًا راجَعَها ثُمَّ طلَّقها، فعل ذلك بِها حتَّى مَضَتْ لَها تسعةُ أشْهُرٍ يُضارُّها، فأنزل الله تعالى الآية، وجه دلالة الآية أن الإمساك حق للزوج، وقد ندب الله تعالى إلى استعماله على نحو مشروع وهو الإمساك مع المعاشرة الحسنة، ونهى عن استعماله على نحو غير مشروع، وهو استعماله على وجه المضارة على النَّحو الذي فعله ثابت بن يسار، وهذا بعينه هو إساءة استعمال الحق؛ لأنَّهُ اسْتِعمالُ حقِّ الإمساك على وجْهٍ غَيْرِ مَشروع.
-الدليل الثاني: قال الله تعالى بعد بيان نصيب الإخوة لأم من الميراث: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ ﴾[النساء: 12]، وجه الدلالة أنَّ الوصية حق للمورث، وله استعماله على وجه مشروع بأن يكون فيه بر بالورثة، ولا يجوز استعماله على وجه غير مشروع بأن يكون إضرارًا بالورثة؛ كأن يوصي بأكثر من الثلث، أو يوصي لأحد الورثة، فالوصية مع الإضرار هي بعينها إساءة استعمال الحق.
-الدليل الثالث: ما أخرج أحمد بسنده إلى عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله المحلِّل والمحلَّل له))، وما رُوِيَ عن الأوزاعي عنه صلى الله عليه وسلم ((يأتي على النَّاس زمان يستحلون الربا بالبيع))، وجه الدلالة من هذه الأحاديث أنَّ الزواج والبيع عمل مشروع والزواج لأجل التَّحليل والبيع لأجل الربا عمل غير مشروع، فلما قصد بالمشروع غير المشروع نهى عنه الشارع، وحكم بفساده؛ لأنه تعاون على الإثم، وقد قال تعالى: ﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].