“العِلم والأدب” بقلم: د. منير لطفي
كما للطائر جناحان لا يحلّق في أجواز الفضاء بدونهما، وكما للإنسان ساقان لا يستطيع الدبّ على الأرض والسعْي في مناكبها إلّا بصحبتهما؛ يمكننا القول: إنّ العلم والأدب هما للأمم جناحان وساقان؛ بهما تنهض وتسمو، وعلى وقْعهما ترقى وتتقدّم، وما بالغ الشّاعر ولا هام كأقرانه الكُثر حين قال:
“ليس الجمال بأثوابٍ تزيّننا..إنّ الجمال جمال العِلم والأدب
وليس اليتيم الذي مات والدُه..إنّ اليتيم يتيم العِلم والأدب”
ولأنّ فوائد العلم ملموسة ومحفورة، وبصماته في ميدان الحياة لا تُحصَى ولا تُعدّ؛ فإنه قد نال بعض ما يستحقّ من التقدير والتبجيل، على اختلاف في ذلك بين أمم متقدّمة وأخرى نامية وثالثة متخلّفة. هذا بخلاف الأدب الذي لم ينل ما يستحقّه من الإجلال والتوقير، حتى إنّ بعض المجتمعات الخديجة فكرًا وروحًا لازالت تحسبه ترفا زائدا لا بأس في التخفُّف منه، وحلْية غير أصيلة يمكن الاستغناء عنها وركْنها في الزاوية! مع أنّ الأدب صنْو العلم وتوأمه، ومعًا يشكّلان وجهان لعملة واحدة أحدهما فكري وهو العلم وثانيهما وجداني وهي الأدب. ولعلّنا نلحظ أنّ الأدب تاريخيًّا أقدم في الوجود، تماما كقِدم الإحساس عن التفكير وسبْق الشعور على المنطق. وهو أيضا أبقى وأرسخ في الخلود؛ فبينما نرى النظريات العلمية تتهاوى وتندثر من عصر إلى عصر، نجد الأدب كالأثر كلّما مرّ عليه الزمن ازداد ألقا وبهاء، وانظر في ذلك أدب المتنبّي في الشرق وشكسبير في الغرب وغيرهما من أساطين الأدب في العصور الغابرة.
والأدب المقصود هنا هو خلجات القلوب وهمس المشاعر ونبض العاطفة وعلامة الإنسانيّة، وهو الذي تترجمه الأقلامُ المبدعة نثرًا فنيًّا تارة، وشعرًا رقراقًا تارةً أخرى، فيشكّل مرآة صادقة لعصره ووقودًا متجدّدًا يدير دفّة التغيير باقتدار نحو مُثُل الحقّ والخير والجمال. ولا أرى هنا فرقًا بين النثر الفنيّ والشِّعر، سوى ما نراه من فرق بين حبّات الجُمان المنثورة فوق طاولة من البلّور، وأخرى منظومة بخيط من حرير حول جِيد فتاةٍ هيفاء غيداء.
والحقّ الذي لا مراء فيه، أنّ تكريمَ العلماء تكريمٌ للعلم، وتكريمَ الأدباء تكريمٌ للأدب، ومن خلال هذا التكريم الذي يلقاه العلماء والأدباء يمكننا الحكم على أمّة من الأمم من حيث تقدّمها وسبْقها في ميدان الحضارة. مع ملاحظة أنّ الفصل بين الأدب والعلم، هو محاولة بائسة فاشلة لا يعادلها سوى فصل الروح عن الجسد؛ نظرًا لما بينهما من تمازج كامتزاج الماء بالسكّر المذاب والرائحة الذكية بالورود والأزهار، ونظرا لما بينهما من تكامل وتعاضد حين يتجمّل العلم بالأدب ويتعقّل الأدب بالعلم، وحين يتيقّظ الأدب بصحْو العلم وينتشي العلمُ بسُكْر الأدب..وهو ما ينسحب أيضا على نزعة المفاضلة بينهما وخلْق حالة من الشقاق حيث لا شقاق ولا يحزنون