“الشيخ محمد لم يرحل” بقلم : د. خالد بن علي الخوالدي

انقضت ثلاثة أيام العزاء وهدأت النفوس، وعادت الحياة رويداً رويداً لأولئك الذين عاشوا في كنف الشيخ محمد بن سالم السعيدي (الحصان)، والحصان لقب عائلته المعروف في ولاية الخابورة، ونعتز بانتمائنا لهذه العائلة الكريمة التي جادت بالعديد من الرجال الكرماء، وكما يقال تموت الأمم وتبقى آثارها، وأثر الشيخ باقٍ ما بقيت الحياة.
هو باقٍ لأن له أثراً في كل طريق داخليّ في ولاية الخابورة، فقد كان يعمل بماله ومعداته في فتح الطرق التي ما كانت لتُفتح لولا فضل الله ثم فضل جهوده، وما إعصار شاهين إلا شاهد واحد على ما قدمه من خدمات للمجتمع في فتح الطرق وتسهيل وصول الناس إلى بيوتهم، وإذا انتقلنا إلى الخدمات الصحية، فمركز القصبية الصحي سيظل شامخاً ومعيناً للمجتمع، أمّا مدرسة محمد بن المعلا والمدرسة الجديدة التي أُقيمت بجوارها، فهما شاهدتان أيضاً على سخائه وكرمه وجوده –غفر الله له–، إذ إن أراضي هذه المدارس تبلغ قيمتها السوقية ملايين الريالات لمساحتها وموقعها الاستراتيجي على الشارع العام.
ويقف جامعه شامخاً كأُسطورة وعلامة فارقة في الجوامع والمساجد على مستوى ولاية الخابورة، فقد قدم له ما حوشه طيلة عمره من مال، بتعاون مع الجميع الذين لا نبخسهم حقهم، ولن أتحدث عن دوره الاجتماعي والمجتمعي والإصلاحي، فهي أدوار لا يمكن ذكرها ولا إحصاؤها لكثرتها واتساع أثرها.
إن في حياة الأمم والبلدان لحظات فارقة، لا تقاس بالسنوات بقدر ما تقاس بالرجال الذين مروا على أرضها وتركوا ما يخلد ذكراهم، وفي ولاية الخابورة يبرز اسم الشيخ محمد بن سالم السعيدي –رحمه الله– واحداً من هؤلاء الذين ارتبطت سيرتهم بتاريخ المكان وروحه، فصار ذكره جزءاً من ذاكرة جماعية لا تمحوها الأيامن وقد أكد أن إرث الإنسان لا يقاس بما يجمعه بل بما يمنحه للناس، ولذلك فإن رحيله ترك فراغاً لا يُسدّ.
وعندما أقول إنه ترك فراغاً لا يُسدّ، أقولها بثقة وخبرة ودراية؛ فرجل قدّم كل هذا وأكثر، ولم يهتم ببناء مجلس فاخر يتباهى به رغم كرمه الحاتمي، يوضح لنا أن هذا النوع من العطاء لا يصدر إلا من رجل يرى أن خدمة المجتمع ليست مجاملة، بل مسؤولية لا يُعفى منها صاحب الهمة، وقد بقي على هذا النهج حتى آخر أيامه، متمسكاً بمبدأ أن الخير يُبنى بالفعل، وأن ما يُنجز على الأرض أهم مما يُقال في المجالس.
العظماء حقاً هم الذين يغادرون الدنيا بأجسادهم، لكن أعمالهم تظل تمشي بين الناس، تذكّرهم بأن الخير لا يموت، وأن الرجال الكبار لا يختفون، لن ينسى أبناء الخابورة والأجيال القادمة سيرة الشيخ محمد بن سالم السعيدي، فقد عاش بينهم كبيراً ورحل وهو أكبر، عاش مؤمناً بأن خدمة الناس بابٌ من أبواب الجنة، ورحل تاركاً خلفه أثراً لا يمحوه الزمن.
نسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته الواسعة، ويجعل ما قدّمه شاهداً له لا عليه، وأن يلهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.



