مقالات

“الرضا بما قَسَمَه الله لَكْ” بقلم : خالد عمر حشوان

كنت الأسبوع الماضي في رحلة لخارج المملكة في بلد مسلمة بشرق آسيا ولفت نظري طفل لا يتجاوز الخامسة عشرة من عُمره يجلس على الطريق بين الفندق الذي كنت أسكنه والمول، ينتظر الصدقات دون ازعاج أو حتى استعطاف، وفي يديه طفل رضيع كان يهتم به وكأنه والدته، وفي اليوم التالي كان المشهد مختلف عما قبله، حيث كان الطفل الأكبر يُلاطف الرضيع ويُضحكه وكان الرضيع في قمة السعادة والضحك، فأجبرني الموقف على التوقف والتأمل في هذين الطفلين وخاصة الطفل الأكبر الذي لم أرى في عينيه أي تذمر أو سخط من تحمل مسؤولية أخيه الرضيع والاهتمام به وتقبيله وإغراقه بجرعات من الحنان، بل كان له أيضاً المُمثل والمُضحك والمُسلي في أغلب الأوقات، فتذكرت حينها حديث المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام الذي قال فيه “إنَّ عِظمَ الجزاءِ مع عِظمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتَلاهم، فمَن رَضي فله الرِّضَى ، ومَن سخِط فله السَّخطُ” (الألباني-صحيح الترمذي)، وحديث آخر قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام “وأرضَ بِمَا قَسَمهُ اللهُ لَكَ تَكُن أغنى النَّاسِ” (أخرجه الترمذي).

يعتبر الرضا من أجمل النعم التي مَنَّ الله بها على عباده الراضين لأنه يُدخل السرور والهدوء والراحة النفسية للقلوب الراضية وهو جنة المؤمنين التي يستريحون فيها من هموم الدنيا ومشاغلها وضيقها، لأن العبد إذا أدرك عدة أمور مهمة، كان ذلك عونا له بعد الله في الشعور بالرضا لما قسمه الله له، ومن أهم هذه الأمور التوجه لله بالدعاء دائما بالبركة في الرزق الحلال، واليقين بأن الرزق بيد الله تعالى ولن يُرزق العبد إلا ما كتبه الله لهُ مهما كان سعيه وجِدَّه واجتهاده، وأن السعادة ليست مقترنةً بالمال بل تكون دائما في الرضا والقناعة، والنظر في حال من هم أقلّ منه رزقاً وقسمةً، وعدم النظر إلى من هم أفضل منه في الرزق كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام “أنظُروا إلى مَنْ هُو أسْفلُ مِنكُم، ولا تنظُروا إلى مَنْ هُو فَوقكم، فإنّه أجْدَرُ أن لا تَزدروا نِعمَة اللهِ عَليكُم” (سنن الترمذي)، وكذلك الصبر على حكم الله والتأمل في حكمته مع اليقين الكامل بأن الله لا يضع شيئا في موضعٍ إلا وله حكمة بالغة لا يعلمها إلا هو عزَّ وجَلّ، ولنا في أفضل خلق الله وهم الأنبياء والرُسُل خير دليل على ذلك حيث كانوا عليهم الصلاة والسلام أكثر الناس فقراً وبلاءً في الدنيا الفانية.

روي لنا فضيلة الشيخ محمد متولي الشعرواي -رحمه الله- قصته وهو عائد لمنزله في رمضان قبل آذان المغرب بساعة فأستوقفه رجل فقير من جلسائه في المسجد وسلم عليه وأستحلفه بوجه الله أن يفطر عنده ذلك اليوم، فحاول الشيخ الاعتذار منه ولكنه وجَدَ نفسه يتبع هذا الرجل لبيته الذي وصفه بأنه غرفة واحدة ومطبخ وفناء صغير مكشوف على السطح له مدخل ودرج خاص من الخشب المتهالك لا يحتمل صعود شخصين معاً، يقول الشيخ: كانت السعادة تملأ قلب هذا الرجل وهو يقول له: هذا البيت ملكي (والملك لله)، وليس لأحد عندي قرش والشمس تشرق على غرفتي كل صباح وتغرب من الجهة الأخرى، وزوجتي تجلس على ذلك الشباك تدعو لي وكأني أسكن في الجنة، وتابع الشيخ قوله: فجلست في الغرفة وذهب الرجل لزوجته يطلب منها تجهيز الفطور لأني ضيفهم اليوم، فقالت له: والله لا نملك سوى الفول وتَبقَّى على المغرب نصف ساعة ولا يمكن الطبخ الآن، سمع الشيخ كل هذا الحوار فقال للرجل: لديَ عندك شرط؟ فأنا أفطر على ماء ومعي التمر، ولا آكل إلا بعد نصف ساعة من الأذان لأداء الصلاة والورد اليومي، ولا آكل إلا فول مدمس وبطاطس، فدعني أختلي بربي الآن، فتركه الرجل، ثم أفطر الشيخ محمد معه وغادر منزل الرجل وهو يقول: خرجت وكلي سعادة وبهجة وقد أحببت الدنيا من لسان هذا الرجل الفقير الذي نطق فمه بعبارات الثناء والحمد على نعم الله وعلى الذي مَلَّكَهُ الله إياه والحياة الجميلة التي كان يتغنى بها بكل سعادة وفخر.

وأختم بمقوله أعجبتني والتي تقول “سِرُّ الرضا هو الالتفات للموجود وغَضُّ الطرف عن كل مفقود، وسِرُّ الطموح هو البحث عن المفقود مع حَمْد الله على الموجود”، وصدق المصطفى عليه الصلاة والسلام عندما قال “وأرضَ بِمَا قَسَمهُ اللهُ لَكَ تَكُن أغنى النَّاسِ”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى