مقالات

“التساهل في حقوق العباد” بقلم : خالد عمر حشوان

قد يجهل الكثير من الناس أن حقوق العباد لا تُكفِّرها أيُّ أعمال في الدنيا حتى الجهاد في سبيل الله أو الإيمان به، وإنما تُكَفَّر بالتوبة منها، ومن شروط هذه التوبة رد المظالم إلى أهلها، وقد نبهنا المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام في الحديث الذي قال فيه “مَن كَانَتْ له مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أَوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أَنْ لا يَكونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه” (صحيح البخاري)، وهذا يعني أن الوفاء بهذه الحقوق إذا لم يتم في الدنيا وتم تأجيله ليوم القيامة سوف يكون بنقص من رصيد حسنات الظالم في يوم تكون فيه الحسنة أغلى من الدنيا وما فيها من نعيم، وإذا نفذ هذا الرصيد من الحسنات حُمِّل الظالم من سيئات المظلوم.
أما في هذا الزمان الذي نجد فيه تساهل واضح في أداء حقوق العباد والتطور في أساليب المماطلة والتسويف والإنكار حتى يصل صاحب الحق أحيانا لمرحلة فقدان الأمل في الحصول على حقه بسبب الثقة وعدم الاحتياط لذلك، سواء كانت الحقوق ديناً أو إرثاً بين الأقارب أو حقوقاً بين الجيران أو أكل مال اليتيم أو أكل مال الناس بالباطل أو اعتداء، أو أي حقوق للعباد تُنتهك بغير حق كالتي ذكرها النبي عليه أفضل الصلاة والسلام في الحديث ووصف الظالم يوم القيامة بالمفلس وقال فيه “أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ” (صحيح مسلم).
سُئِل الإمام ابن باز -رحمه الله- عن كيفية رد حقوق العباد لأصحابها، فأجاب بأن عليه أن يستحلهم منها في الدنيا فإذا عَلِمَ الله منه الصدق يَسَّر له أمره والواجب عليه أن يتوب إلى الله منها توبة صادقة ويعزم على ردِّها إليهم مع الاجتهاد في طلب السماح إن استطاع، لعلهم يسمحون، وإن لم يسمحوا فليجتهد حتى يوفِّيهم حقوقهم، وإن لم يوفِّ، وفَّى الله عنه يوم القيامة إن صدق في ذلك وأجتهد ووفى ما تيسر من الحق وعمل ما يستطيع حتى يبلغ وسعه في ذلك، كما قال الله تعالى في أخر سورة البقرة {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (الآية-286).
وأختم بحديث وضَّح فيه المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام تحريم حقوق المسلمين سواء كانت كثيرة أو يسيره، عندما قال عليه الصلاة والسلام “مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بيَمِينِهِ، فقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عليه الجَنَّةَ فَقالَ له رَجُلٌ: وإنْ كانَ شيئًا يَسِيرًا يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: وإنْ قَضِيبًا مِن أَرَاكٍ” (صحيح مسلم)، لذلك لا يستهن الظالم بحقارة ظلمه فمعظم العذاب من مُحقِّرات الذنوب، ومعظم النار من مستصغر الشرر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى