مقالات

“تواصل النبي ﷺ مع القبائل العربية” بقلم : د. مصبح بن سالم الكعبي

أدرك النبي محمد ﷺ مبكرًا أن القبيلة هي الركيزة الأساسية في النظام الاجتماعي والسياسي عند العرب، ساعده في ذلك النشأة التي نشأ عليها، فقد ترعرع في صباه في كنف جده عبدالمطلب، سيد مكة، وشاهد وفود القبائل العربية وهي تفد في مواسم الحج، ورأى تعامل جده مع زعماء تلك القبائل. ثم تعرف في فترة شبابه على الأوزان القبلية (قوة كل قبيلة ومكانتها)، واقترب أكثر من فهم النظام الاجتماعي والسياسي للجزيرة العربية من خلال مجالسته لعمه أبو طالب، وحضوره للكثير من اللقاءات والنقاشات التي كانت تدور في دار الندوة وحول الكعبة المشرفة، أو في بيوت سادات مكة وأشرافها. واستطاع عليه الصلاة والسلام بعد عشرات السنين تكوين صورة واضحة عن طبيعة المجتمع في الجزيرة العربية، وتوزع مراكز الثقل القبلي؛ فعرف مواطن القوة والضعف، وخصائص ومميزات كل قبيلة، والعلاقات والتحالفات بين القبائل العربية. ولا ريب أن لأبي بكر الصديق رضي الله عنه دورًا أساسيًا في تعزيز وتطوير تلك المعارف، فقد كان ذو علم بأنساب العرب.
وعندما أيقن النبي ﷺ أنه لا مجال لاستمرار الدعوة في مكة المكرمة بسبب تعنت وتكبر زعماء قريش، لم يقف مكتوف الأيدي، بل بدأ يفكر “خارج الصندوق”. فذهب إلى الطائف لدعوة قبيلة ثقيف إلى الإسلام، لكنهم عاندوا وأعرضوا. فلم ييأس النبي ﷺ، وشرع في التواصل مع وفود القبائل في مواسم الحج. فتواصل مع أهل يثرب من الأوس والخزرج، فرقت قلوبهم، وأنارت بنور الإيمان، وتصاغرت الدنيا في عيونهم، ورغبوا فيما عند الله والدار الآخرة.
وأخذ ﷺ البيعة منهم على نصرته حتى يبلغ دعوة ربه، وبذلك استطاع ﷺ أن يجد حلاً ومخرجًا لواحدة من أشد الأزمات التي مرت به.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال:
“بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.” (مسلم: 1709)
لقد سطرت قبيلتا الأوس والخزرج (الأنصار) أروع الأمثلة في نصرة النبي ﷺ والذود عن حمى الإسلام، فقد بذلوا أنفسهم وأموالهم وأولادهم رخيصة في سبيل الله.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يَقْشُ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]إن المتأمل في سيرة النبي ﷺ يرى أنه استطاع أن يوظف القبيلة لخدمة هدفه الأساسي وهو نشر الإسلام، وعمل على إيجاد حالة من التنافسية بين القبائل العربية، بحيث تسعى كل قبيلة لنيل شرف السبق لخدمة الدين.
وتمكن ﷺ من تحويل القبائل المتشتتة المتصارعة إلى قوة عجيبة استطاعت أن تطيح بالنظام العالمي الذي كان سائداً في ذلك الوقت، فمزقت الإمبراطورية الفارسية، وهزمت وشتت الإمبراطورية الرومانية.
وفي هذا درس كبير لكل من أراد السيادة والقيادة في العالم العربي بأن عليه الاستفادة من البعد القبلي، وذلك لأن القبيلة كانت وما زالت هي القوة الأساسية الفاعلة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى