“وشْوشة السنابل” بقلم : رمضان زيدان

لما كان البدء انبلج نور الحياة من مشكاة طُهْرها البديع

بشارة البدء والتكوين نفحة بين جنبات الوجود

بكل معنى للمعاني الآسرة هناك على حافة النهر

جلس الكائن البشري سَمِي فوق الصخرة الشمّاء

برسوخها التليد مُعبّرة أمامه مجرى العباب

من فوقه سحاب والديم الممطرة

بجانبه شجرة مزهرة وعين ماء وصاحبته

التي خرجت من أقانيم ماهيته فاستروحت بمستقر لها

بعدما اجتازت ممر روضها ما بين هدأة المساء

وأهداب الصباح سكينةٌ وسُكنى لأواصرٍ وثقى

قد عهدت لها بالارتياح والبهجة الغيداء والانشراح

من وقْع صوت الخرير حينما يجري في قنوات الماء

ولون الوردة الفيحاء وزرقة البحر ونفحات السماء

ونور القمر بين الليالي الهادئة طبيعة وسيمة بدائية بادئة

تعمّدتْ الأرض فأخرجت ثمارها ولّادةً جوّادةً مُخْضَرّة

تلك التي ضمتْ على ضفافها المرابع والمراعي والقطيع

وفي ثناياها تلبّد الصقيع بين أرجاء البسيطة

على سطح البُحيرة تطفو الطيور رويداً .. رويدا

سابحة في الربوع المبهرة وأمواج البحر

القريب من مجرى النهر تعدو خلف بعضها البعض

في رحلة المجهول تتطلّع للوصول

إلى الشاطئ الأخر وقلب الحياة نابضٌ بكل زاخر

ظل طول الدرب يخفق وبدا للأقدار سهمٌ راح يمرق

من اتقادٍ بالرمية المصوّبة حيث يعدو في الليالي المقمرة

مشاهد . روافد مفعمة بالحيوية يحتويها دفْ الربيع

الممزوج بما تبقى من صقيع الشتاء

وعطر الطبيعة الخلابة الفيحاء ورشفة عذبة الرواء

من النبع الرائق ومن جاء يتملّى

في ولادة النور إذا تنفّس حينما ينبثق من رحم الدجى

باعثاً بشعاعه الفضي متخللاً غصون الأشجار

التي تعانقت وعلى فروعها محتبكة كأنها مشتبكة

ومر صيادٌ بشبكة لينصب فخاً ماكراً لفوجٍ من الأسماك

فكان لحديث النفس وقْعٌ وهي تطالع

ملامحها . قسمات صورتها على صفحة النهر الخالد

حينما غمر الماء صورة وجهه النافض

مجرد صورة الوجه وهو جالس في مكانه ظل جالس

ظل في الفضاء هامس لم يُصبه الملل

من طول جلسته ولم تطوله قطرة ماءٍ واحدةٍ بالبلل

حين داعب النسيم وجه المياه وخفة الأمواج

كمثل السياج على الحدود ..

الصوت يصل من خلفه إلى حيث ممنوع التخطّي

خلف جدران الصدود والكائن الإنسان بروحه وجسده

بمعتقده وقناعاته وفكره وقف أمام لوحةٍ معدنية

كُتب عليها ممنوع العبور خلف هذا السور

ممنوع التخطّيّ والمُخاطرة ممنوع .. خطر مميت

أن يخطو على أرضٍ أصبحتْ بالديناميت مُلغمة

كان له بها في الماضي عشيرة مُنعمة كان له بها مدرسة وبيت

ولأجداده الخالدين مسجد وحقل ومعصرة زيت

ولوالده مقر عمل كان يصلي كل صباحٍ يحدوه الأمل

كان له فتاة أحلامٍ جميلة كوجه الصباح وأُمّاً جليلة

تقرأ عند شروق الشمس عند ولادة النهار

وانبعاث الإصباح آيات من الذكر الحكيم

تعويذة من النفاثات في العقد وتنثر الملح على بنيها خشية الحسد

كان له صفوة من الرفقاء ومقهى يجمعه بأصدقائه عند المساء

وأغصان وشجر وزيتونة خضراء كان له بها وكان بين جنبات المكان

بين خواليّ الزمان كان له في كل ساحة وفي كل الأمكنة

نُصباً تذكارياً قدس أقداس

البطولة والشجاعة والفدا ظلٌ وأثرٌ وأوراق شجرٍ

تخلله الندى وخُطى متئدة

وأخرى مُسرعة على طول المدى وفوق اليم كان مسار فلكه

وعبق الموج من فواحِ أقحوان مسكه

وأجنحة العصفور ترفرف على نواصي رأسه

محاولة أن تنفض الرذاذ عن وجهه عن جبينه

وقد رمق بعينه في الثبج سمكةً عقدتْ النية على الهرب

من شِباكٍ أضمرت الإيقاع بها وعند هبوطه مرة أخرى على اليابسة

باحثاً عن التعاضد والوفاق وفحوى الارتفاق

والعهود القيمية المقدسة عن معاني للتعالي

على الصغائر لم يجد لاحت له الأماني من سالف مجدها

صادحة بقوةِ عزمها آملة أن يذوب ملح الأرض بين تربها

وأن يختلط ماء البحر بماء النهر وترقد الديم النشطة

في حضن السُحب والقفار الجدب يستحيل

إلى مرابع الخصب النضير لتخرج من طوية أرضه القوية الأبية

وشْوشة السنابل التي تفوح برائحة موسم الحصاد

فتنضج من اتقاد القيظ والحرور وها هو عبق النور

الذي ينبعث من اشتعال الطابون والتنور

بجذوةٍ متقدة متأججة فتسد حنطة العطاء الرباني

رمّق الجائع الموجوع وتُسكت أنّات الجوع

بالبطون الخاوية وتُخرج الأرض من باطنها جذوع

تلوح بأوراق الكلأ والفروع لدواب الحقول والماشية

وبرغم هذا الاخضرار رأيت الأرض تتغرب بالفيافي والقفار

ومن تيه صحراء العطش جاء الكائن الإنساني

يحبو بأولى خطوات غربته العابرة حينما تاهت منه فكرته

واختلط الوعي بالا وعي والعقل بالا عقل

وذابت السِمان في بطونٍ للعجاف والسنبلات الخضر في جَدْب اليابسات

قبل أن تلتهم نضارتهن الخراف وبقي التأجج والتأرجح بين . بين

ليشوب رؤيته اعتساف كالذي بين السواعد الرخوة

والسواعد المُشمّرة التي كانت ذات يوم مُعبّرة

عن كل ما تأبطه الكيان الماثل وقد برع في واقعيته وواقع جَدّيته

موغلاً في بحثه الطارف التليد عن التعاضد المجيد

في لحظة استدعتْ لذكرياتها الآسرة المؤثرة

لكن نتائج البحث لم تكن مجدية لم تكن أبداً مُرضية

أو بالأحرى لم تكن عميقة رصينة بالقدر الكافي

وبقيتْ الأشياء والأحياء مرتقبة ناظرة ويوم أن هبط الكائن المكرم

على الأرض تورّم أنفه وانتفخت أوداجه منقباً

عن وجه العدالة في كل معني وكل قيمة وتعاليم الرسالة

فلم يجد سوى صنوفاً من الغي والضلالة

لم يجد سوى كائنات من بني جلدته نهّازة مختلسة

وعليها كالأفاعي كل لدغة مفترسة فمن المعلوم ..

أن الوحش يفترس ليقتات لا ليتلذذ بآلام فريسته

لا ليقهر الكائنات أمام وريثته أو أن يمارس عليها عُقده وساديته

كان للرمح كان للسيف خُلق ورب لا يقطع فرعاً أو غصن

لا يقتل طفلاً أو شيخ لا يستقوي على امرأة ضعيفة

كانت قِيَمة للقيم مُضيفة كان ذلك في الزمن القديم

كان للنُبل قيمةٌ في زمن الفارس المقاتل

فانمحت وتلاشت تلك الروح حينما حلَّ القاتل المأجور

والأرض أرض بور من المعاني الجميلة والقيم

منذ القِدم لم يذود عنها وجود الواعظ والقديس

بل قد ديس بالمداس والقدم من قِبل ذلك

الكائن الموجَّه الأصم الصنم ومضى على ثكالى الضعف

والخوف والألم فينجو كل بوق

من العبيد والخدم من صُلب كل قيصر

يخرج القيصر الجديد المرتقب ليخرس الكتمان بالرهب

والروح في الظلام تنْتَحِبْ وعلى أعين الشهود والعيان

طُرح سؤالٌ بِكْرٌ من نوعه يستلهم من استفهامه البيان

أجب أيها الكائن الإنسان هل يأكل الضرغام أنثاه

هل تأكل الشاة الشياه هل لفظت الأرض أبناءها

بين أركان الحياة كانت الوصايا منذ مبتداه

على صفحات القيمي المقدس لا تقتل الأطفال لا تودي بالأجيال

إلى محرقة الشرى لا تعمد إلى إزهاق أرواح الورى

لا تجتث ظِلّاً ظليلا ولا تقطع بِوادياً سبيلا

في دروب الوجود واعتني بالشيخ وأعنه على حاجته

كن عطوفاً ذو قسمات مألوفا بسمْتك بخُلقك النبيل

فهكذا جيء بالوصايا قبل أن نعرف للقراءة أبجدية

أول ما جئنا للدنيا عرايا مُطهرين من كل دنس

وكانت تلكمُ الأسس .. لكن تواليّ الحدث

من بعد الحدث مُوقعاً بما لم يكن في الحسبان

قتل الإنسان للإنسان تشريد الإنسان للإنسان

والتلذذ بآلامه وأوجاعه أي شيطان رجيم

يقود الإنسان نفس طينة الإنسان

وجبلّته إلى قاع الجحيم أُضْرمتْ النيران

وبُقرت بطون للحوامل وفي سباته العميق

اسْتَمْرأ كل هامل قرطاجة تراجعتْ

إلى ما قبل البدء خُطاها تباطأتْ وعلى نفسها تقوْقعتْ

وظلتْ تنشد أناشيد نصرٍ للخوالي السابقات

وأُطلق البخور حول تماثيل المعابد اللواتي

نصبن تذكاراً للنُصب بعدما ذهب كلٌ لحتفه

وبقيتْ السنين تعلن انتصارها على بني البشر

على كواكب المارين الراكضين على جسر الأبدية

على دروبهم المعبَّدة المؤدية إلى صخرة الرسوخ

عرش الكائن الذي هبط على حافة النهر مرتلاً في ترنيمة الخلود

مستظلاً بفروع السنديان والآن أي إنسان تراه

هذا الدموي الحقود الذي اقتلع جمجمة الإنسان

ليصوغ منها قدحاً يشرب فيه نخب سؤدده المَسُود

بينما ترك الحدود للعابثين بها والتفت لبني جلدته من العبيد

كي يعود ليطلق العنان في أجواءها لكل مستبيح

وفي إجراءٍ قويٍ فوق أضلع الذبيح حتى يُريح ويستريح

استصدر مرسومٌ للمواكب المدججة فأمسكتْ بقبضة السيوف

باعثةً الذعر والخوف في مدينة أوراليم

بساحة أملاك الغائب جثمتْ أقدام الكتائب

على وجدان شهقات الصمت الرهيب صمت القبور

في ظلمة الليل السديم لتقطع بالحد القويم

ألسنة الجمع الغفير من أولئك المفوهين

القائلين المحدّثين وعلى صفحات التيه القاحلة

عمدوا عليها مؤرخين . مدونين أولئك أصحاب الفتن والشرور

الذين قدِموا بعدما تقدموا إلى مذبح القربان

وقد رفعتْ يدان المفوه الفصيح علفاً للطيور

للدجاجات والحمَل الوديع ليكونوا خَلَفَاً لسلف

وفي مَقْدَمِهم ورَدِّ فعلهمُ وتعبيرهمُ الرفيع

قدّموا المستأصَلين هديةً في عيد الجلوس

عيد الحفاوة بكل موروث ليرقى إلى نواميس الطبيعة

في بهو دارة العروس اليتيمة المتيّمة

*****