“حقوق الجار في السنة النبوية: قراءة تربوية” بقلم الباحثة: مشاعل الحيزان
بلغ اهتمام الإسلام بحق الجار منزلةً عظيمةً؛ إذ تكررت وصية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بالجار، وهي وصيةٌ ربانيةٌ سماويةٌ عظيمةٌ، فما كان جبريل ينطق إلا عن وحي من الله عز وجل، وكان من أثر تكرار هذه الوصية، أن قال صلى الله عليه وسلم: “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه” [البخاري، 1422هـ، 2/10]. هذا إنّ المتتبع للنصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية يلاحظ أن ميدان حقوق الجار تتسع لكل معاني الحسن، وترفض كل صور الإساءة إلى الجار، وهذا الحرص والاهتمام لم يكن مقصوراً على الجار المسلم، لأن كل من تنطبق عليه صفة الجوار يستحق هذا الإحسان وتشمله الحقوق. فاسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والعدو والصديق، والغريب والبلدي، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب داراً والأبعد.
فالجيرة مراتب أدناها وأكدها (الجار المسلم ذو القرابة)، ثم الجار المسلم غير ذي القرابة، ثم الجار الذمي، ومن كان من هؤلاء أقرب من حيث المسكن زاد تأكّده.
وقد برزت العديد من الدلالات التربوية في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المتعلقة بحق الجار، حيث أثر ذلك في البناء السليم للبنية الشخصية للفرد المسلم، ولعل من أهمها التكوين العقدي له؛ حيث ربطت الإحسان إلى الجار بحسن الإيمان، فعن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره” [مسلم، د.ت، 1/69؛ ابن ماجن، 259، 4/637]، وفي المقابل نهى عن إيذاء الجار، حيث قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره” [البخاري، 1522هـ، 8/11؛ مسلم، د.ت، 1/68]، وهذا من شأنه يحافظ على سلامة القلب، وتعزيز الخيرية، فيتحقق كمال الإيمان والإحسان بإكرام الجار وبره، وكذلك نفى الخيرية في النفس والمجتمع لمن آذى جاره؛ حيث روي أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله فإن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار وتفعل وتصدق وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا خير فيها، هي من أهل النار”، وفلانة تصلي المكتوبة وتصدّق بأثوار ولا تؤذي أحدا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هي من أهل الجنة” [البخاري، 1419هـ، 63]، فمن يؤذي جاره منزوع الخيرية، حتى وإن كان يقوم الليل ويصوم النهار ويتصدق ويؤتي أعمالاً فاضلة أخرى، إلا أن أذيته لجاره تخرجه من خيرية النفس المقرونة بطاعة الله واتباع أوامره وتُلقي به في المعصية، وإتيان ما حرم الله فتدخله النار. فمجمل التوجيهات النبوية بصلة الجيران وبرهم، والتودد لهم والتحابب بكل ما ينفعهم، أو يجلب مودتهم، ويقرب بينهمن وبذلك تبنى العلاقات الإنسانية المبنية على أسس إيمانية متينة، فيحرص كل منهم على الآخر، ويدفع كل منهم عن جاره السوء كأنه يدفعه عن نفسه.
وكذلك يتحقق التكافل الاجتماعي بتقديم العون والحماية والنصرة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع” [البخاري، 1419هـ، 60]، وهذا مبعث رحمة من الله عز وجل، وتأصيل لترابط المجتمع وتعاضده، وتكاتفه، فيقوى وتتمكن منه الفضيلة، وينتشر فيه الأمن والمحبة والحرص على مصالح الغير.
وقد عظم الإسلام بذنوب تفعل تجاه الجار وحقه والاعتداء على عرضه، فعن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: “أن تجعل لله نداً وهو خلقك”، قال: قلت له: إن ذلك لعظيم، قال: قلت: ثم أي؟ قال: “ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك”، قال: قلت: ثم أي؟ قال: “ثم أن تزاني حليلة جارك” [البخاري، 1422هـ، 6/18؛ مسلم، د.ت، 1/90]. لأن للجار من الحرية والحق ما ليس لغيره، فمن لم يراع حق الجوار فذنبه مضاعف لجمعه بين الزنا وبين خيانة الجار الذي أوصى الله بحفظه.
ولذلك الجار الصالح هو مبعث للسعادة والاستقرار النفسي، فعن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “من سعادة المرء المسلم المسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيئ” [البخاري، 1419هـ، 62]. وهذه الأمور تؤدي لسلامة النظام الاجتماعي واستقراره وترابطه.
وهذا من شأنه تعزيز المنظومة القيمية لدى الأفراد والمجتمعات، فالأحاديث النبوية في هذا الباب كثيرة وواسعة لا يمكن حصرها؛ فجاء التأكيد على حسن الخلق والصبر والعفة والكرم، وهي أساسية للمسلم في جميع جوانب حياته، واستمراره ورقيه ونهوضه، وأشد ما يحتاجها المسلم يكون في علاقاته الدائمة ومعاملاته المستمرة، مثل علاقات الجيرة، التي يجب أن تُصان بالأخلاق والقيم، وتحفظ بالعفة والكرم وتغلف بالصبر والحلم على الجيران.
إن ما تضمنته السنة النبوية الشريفة من اهتمام بحقوق الجار والتأكيد عليها، وتنويعها والتحذير من التقصير فيها، يُعد أساساً لتأصيل هذه الحقوق في مجتمعاتنا المعاصرة، ومنطلقاً للتركيز عليها في التنشئة والتربية وإعداد الجيل المسلم، وتوجيه العلاقات بين الجيران، خاصة في ظل ما يُشاهد اليوم من انفتاح وتغير اجتماعي وحضاري وتقني، انعكس سلباً على بعض جوانب النظام الاجتماعي، ومنها علاقات الجيرة.
إشراف: أ.د: صفية ال بخيت.