“أثر جائحة كورونا على القواعد الجنائية العامة” بقلم: د. أحمد بن صالح البرواني أستاذ القانون الجنائي المساعد بكلية البريمي
إن ما يمر به المجتمع البشري في ظل جائحة كورونا، انعكس على كثير من المفاهيم والقواعد والممارسات مما يوجب على الباحثين والمهتمين بالدراسات القانونية بحث تلك الانعكاسات وأساليب التعامل معها.
وسنحاول في هذه المقالة أن نركز على أهم تأثيرات التعامل مع جائحة كورونا على القواعد الجنائية العامة، والتي من أهمها مبدأ المشروعية حيث نجد أن معظم الدساتير نصت على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وترتب على هذا المبدأ قواعد معينة أهمها ضرورة التجريم ومدى تناسب التجريم مع الخطورة على المجتمع ومدى تناسب العقوبة مع الجرم المرتكب، ولعل المتتبع مع كيفية تعامل معظم الحكومات مع هذه الجائحة يلاحظ خروجها بشكل غير مبرر عن مبدأ الشرعية حيث أوكلت معظم الحكومات للسلطة التنفيذية إصدار قرارات التجريم بدون وضع أطر قانونية لعمل تلك اللجان وعدم إقرار إعمال الرقابة على أعمالها، ولعل ما يتلاحظ أن بعض القرارات الصادرة عن تلك اللجان مخالف للقواعد والمبادئ الدستورية، فنجد أن هذه اللجان لم تبحث في بدائل أخرى واتجهت مباشرة للحل الجنائي وأصدرت قرارات التجريم بل وتوسعت في التجريم لدرجة أثرت على حرية الناس وحقوقهم خاصة فيما يتعلق بالتنقل والعمل وكسب المال والنماء الاقتصادي، كما تشددت في العقوبات وأقرت عقوبات مالية قاسية إضافة إلى عقوبة نشر صور المخالفين.
كما أهدرت هذه القرارات ركنًا مهمًا في التجريم وهو الركن المعنوي حيث اكتفت بوقوع الركن المادي فقط لقيام المسؤولية الجنائية، ولعل الأمر الأشد خطورة هو مصادرة حق التفكير حيث جرمت أي انتقاد لأعمال اللجان المكلفة ولم ترضى بأي نقد لأعمالها مهما كان، بل وصل الأمر في بعض التشريعات أن تعتبر أن ذلك اعابة وإهانة في ذات رئيس الدولة.
ولعل البعض من تلك القرارات اعتدى على حق ممارسة الشعائر الدينية وهي حقوق مكفولة بموجب الدساتير والمواثيق والمعاهدات الدولية، وإذا انتقلنا إلى دور الادعاء والقضاء في تطبيق تلك القرارات نجد أنه لم يعطي لهم أي دور في ذلك والمتتبع لدورهم يجد أنه شبيه بنظام المراقب حيث يؤشر على البيانات المقدمة إليه، وهذا بلا شك هدم لمبدأ سلطان القضاء وهدم لحماية حقوق المتهم في جميع مراحل الدعوى. كما أن تنفيذ العقوبات يتم فور الحكم من المحكمة الابتدائية، بل وفي بعض الأحوال يجبر الشخص على دفع مبلغ الصلح تحت تهديد فتح ملف جنائي ضده ونشر صورته في وسائل الإعلام المختلفة.
ولا شك أن الواجب هو المحافظة على الحقوق الدستورية للأفراد في كل الإجراءات الجنائية المقررة لمواجهة الأخطار والكوارث، ونحن نعلم أن هناك تحديات قانونية قد تواجه المشرعين لمكافحة الأزمات، لكن لا بد من موائمة تشريعات الأزمات مع الحقوق الدستورية، وذلك من خلال الإطلاع على التجارب القانونية للأنظمة المقارنة في مواجهة الأزمات العالمية والإستفادة من أفضل الحلول الممكنة في مواجهتها، ودعوة المفكرين والباحثين للبحث عن أفضل السبل الكفيلة بالحد من آثارها السلبية. وضرورة إعداد وصياغة قانون لحماية حقوق الأشخاص في حالات الكوارث، مع ضرورة النص على التقيد التام بأحكام الدساتير الوطنية سواء فيما يتعلق بالأجراءات القانونية لإنشاء لجان للتعامل مع الأزمات والأوبئة وتحديد اختصاصاتها أو فيما يتعلق بوضع أطر قانونية لعمل تلك اللجان تلزم فيه بالتقيد بجميع القواعد والمبادئ الدستورية فيما تتخذه من إجراءات استثنائية، وعدم اللجوء للحل الجزائي إلا في ظل عدم وجود بدائل قانونية أخرى لها ذات القدر من الفاعلية لمواجهة الكوارث والأزمات، وكفالة حق المواطنين في الطمأنينة من خلال تجريم نشر الأخبار المروعة أو الكاذبة عن الوباء مهما كانت الجهة التي اصدرتها، والإلتزام بكافة الضوابط التي يفرضها القانون لتقييد الحقوق والحريات، ومنها مبدأ التناسب مع حالة الضرورة، ومبدأ المساواة في مجال القانون الجنائي، والحق في حرية الفكر والدين، وغيرها من الحقوق.
الأمر الثاني الذي فرضته الجائحة هو أن الأعباء على أجهزة الشرطة قد زادت بشكل كبير فهي مطالبة بتنفيذ قرارات اللجان المكلفة بالإضافة إلى عملها الأصلي، وهذا بلا شك يزيد العبء على أجهزة الشرطة، كذلك فإن على أجهزة الشرطة الإنتباه لبروز نوع من الجرائم في ظل هذه الظروف وخاصة جرائم الأمن السيبراني كاختراق المواقع الإلكترونية لبعض الجهات والتهديد والاحتيال الإلكتروني، وهي جرائم تزداد بشكل كبير في ظل القيود المفروضة كالمنع من التنقل بين الدول أو حتى بين بعض المناطق في الدولة نفسها، وكذلك إقرار نظام العمل من المنزل، حيث إزدادت القيود بهدف احتواء فيروس كورونا.
وفي تأثير الجائحة على نظر الدعوى الجزائية فإن هناك من الدول من أقر نظام التصرف خارج المحكمة في الجرائم ذات الخطورة القليلة، وهذا بلا شك وإن كان يؤثر على النظم القضائية إلا أنه ضرورة استوجبتها ضرورة التعامل مع جائحة كورونا.
ولعل وضع السجناء وما يحتمل أن يشكله وضعهم في ازدياد احتمالية إصابتهم بالفيروس خاصة في ظل قيام السلطات بإدخال سجناء جدد هو أمر يفرض على السلطات القائمة على السجون إتخاذ تدابير مشددة لمنع وقوع ذلك بالتنسيق مع اللجنة المكلفة ووزارة الصحة والجهات ذات العلاقة، وهو أمر يدعوا السلطة القضائية إلى النظر في بدائل للعقوبة السجنية كلما كان ذلك متناسبا مع الجريمة المرتكبة ونتائجها والخطوة الإجرامية المتوافرة لدى الجاني، ولعل الأمر يدعوا إلى أن تقوم السلطات المختصة بالنظر في الإفراج عن بعض السجناء بشروط معينة للحد من انتشار الفيروس.
ختامًا نرى إن الإجراءات التقييدية والعقابية لن تجدي نفعًا لمواجهة الكارثة بل لربما قد تزيد من الحواجز أمام الأشخاص الأكثر إحتياجًا وقد تزيد من حالة الإحتياج لدى بعض الأشخاص والمجتمعات، وبالتالي ربما ستؤدي إلى تضعضع الثقة بين الشعوب والحكومات، حيث يحتاج بعض الأشخاص فسحة من الحرية من أجل العمل وكسب المال لرعاية أنفسهم ومن يلزمهم عولهم، فالإنسان يحتاج إلى التعاطف والتضامن والرعاية، وهذه المفاهيم منصوص عليها في القوانين والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وهي بإذن الله وعونه وتوفيقه ستوفر إطارًا لضمان أن تكون جهود الصحة العامة متناسبة مع الظروف الطارئة ومع حقوق الإنسان وبالتالي ستجعل أكثر الفئات سريعة الإستجابة للتقّيد بالضوابط المفروضة لمواجهة الجائحة.