” أبجدية الأحياء والأشياء ” بقلم : رمضان زيدان
ندهة العصافير أحاديثها زقزقتها
لغتها الأممية لم تتغير
على الاشجار صامدةٌ
تهتف ضد كل طامعٍ مُشمّر
عن ساعديه ضد كل طارئ بغيض
حط على كل غصن مثمر
الاحجار والصخور والجدران
لو غيّروا أشكالها تصاميمها والألوان
ستظل مكوناتها . عناصرها تُعبّر
عن مضمونها سوف تبقى كي تُعمّر
تدافع أمواج البحر نحو البر
نحو جلمود صخرٍ عاد زمجر
لغته البحرية لا لم تتغيّر بعد
الجداول ومن ثم مجراها حيث جرى
ليشق في الأرض مجرى للسقيا يفيض
السار ي إلى حيث الحياض
ولغة الفروع والغصون
فوق أشجار الرياض
كل شيء عبر آماد وحقب صار أكبر
صار معطاءً ومثمر
نفس العطاء لم يتبدل
لم يشيح بوجهه لم يستدير
نفس اللغة لإعلاء الاباء
روح الفداء
وحديث نفسٍ منذ بدءٍ للخليقة
ألف وباء
أبٌ تخلّق للتوثّب والتقدم والمضاء
خرج بمجدافٍ عنيد
لم تثبطه العواصف
ليكون مرجع للتقدم للأمام
فهو الإمام بقلب ميمنة العطاء
والاعتلاء لربوة كفاحه اليومي
حين ظلَّ
مستلاً لاتقاد عزمه القلبي
حيث ولّى وجهه للمقتبل
فصار مضرب المثل
في مجابهة الأخطار
منذ أن خرج النهار وانبلج
منذ تأجج وانفرج
بلغته اليومية التي لم تتغير
منذ أن فتح نافذة الصبح الوليد
على نسماتٍ يعانقها الجريد
على صوت وشوشة السنابل نفسها
منذ أول مهدها
فوق عودها الأخضر
إلى يوم نضوجها بلونها الذهبي
وبريقها الأصفر
ستبقى الغلال مغردةً
بلغة منبتها إلى مبلغ ذروتها
مترنمة بأهازيج يوم الحصاد
في كل عام له ميعاد
كل شيء قد أجاد
في أبجديته تميّز بانفراد
ها هو صوت المذياع من توّه أذاع
نبأ حادثةٍ هنا أو خبر حادثٍ هناك
وقد دعاك للتفكّر والتدبّر
يتعالى صوت خشخشة المؤشر
حينما يتنقل بين محطةٍ وأخرى
ظل يبث الأخبار ظل ينشر
ولغةٌ كونيةٌ تتمتم بلهجة البكور
لغة الطابون والتنور
اذا اتقد لينضج
من توهّجه الرغيف الطازج
ليبوح ويفوح عند الصباح الباكر
برائحةٍ تشتمل على نارٍ ونور
نارٌ تعالى وقدها وهجاً أنار
والنور من مكنونه وجه النهار
وأرصن أبجدية في عمق معناها
الذي دعاها بالمكرسة القيمية
هي أبجدية الأرض الطيبة الأبية
التي قامت عليها
حضارة الجدود الأولين
مجدها الراسخ بين جنبات السنين
تراتيل الشموخ في عوالم الوجود
في مدى وعد الخلود
فأعلنتْ بصوتها الجهور
ليرد في البُعد صداها نابضاً بين الصدور
بزأرة الهصور
إلى أن وصل للتخوم
إلى أن وصل إلى حد تسديد الرسوم
من أجل العبور بوابةً وسور
إلى مقاطعة أخرى مختلفٌ مضمونها
وملامح قاطنيها الجلمودية
أما الخصيبة الوسيمة السَمية
فمسقط الرأس يظلُّ بها
وشدة البأس من خلالها
الشمس لغتها . معاجمها
خصوبة مفرداتها ومرادف وهجها
الذي غمر قدس أقداس الطبيعة
وترانيم للصبية الوديعة
أمام نُصب العابرين على جسر الأبدية
من هنا مرتْ المجدلية
وأخت عبد شمس المُضرية
من هنا مرتْ مهرةٌ عربية
قاطعة الصحاري للفتوح
محجلة في جبينها الصبوح
اتقاد وثبتها . أصالتها . عراقتها
وفوق صهوتها فارس مقدام
بإرادته بعزمه بروحه الهُمام
بادر بتشييد أركان الصروح
باني الأمجاد حملته قيمه
على متن تعاليمها
على بساط أمانيها
الى كافة الأرجاء
إلى حيث تراميّ الأصقاع
حتى اذا ركب البحر وانطلق
فقد امتلك الزمام والشراع
متقدماً نحو الشاطئ الاخر
فهو العابر فوق ثبجٍ للمفاخر
في جعبته لغة رصينة البيان
محتبكة البرهان
قوية تدحض ركب بهتان الهوان
وفي يد الفاتح غصن زيتون الأمان
لمن أراد أن يصافح
فله كل الأمان
السلام والتصالح والاطمئنان
ظلّ مُعتقَداً وفكراً فوق أوجه المسار
ويوم أن أقيم الحاجز والجدار
عاد الاستنفار عاد
بوجه كل من تعدّى
حجرٌ صغيرٌ قد تصدّى
من جديد على مداد الرامقين
الواقفين على الثغور
هناك صبرا
نزفتْ من الأحداق عَبرة تلو عَبرة
قد تجرّعتْ المرار من الرحيق
راحت تلوح على الشواطئ للغريق
غمرتْ بدمع جراحها موج البحار
رفعت ذراعيها تُناجي
ألف وجهٍ لانتصار
فجأة سقط المنكبُ المنكوب
مبتور الذراع
دوّى سقوطاً عندها بينما ظل الصراع
بين المَخادع والخداع
بين هشاشة الطيني وبين أعمدة القلاع
هواجسٌ متوجسات في الخَلد تدور
ثانيةً تحور فوق شواطئ للبحور
وعلى ضفافٍ للنهور
خَلقٌ كثير لقوا حتفهم ظمئا
لمّا تبدى قاع يمَّهم صلدا
جفَّ المداد ولم نعي للكلمات فحوى
لتظل رُقيةً في جوف النشيد
الذي دوّى به صراخ صوتٍ للوليد
صبرا قطعوا نبع مدادها الساري
في جوف غابهمُ السديم
قطعوه حمقاً ثم حنقاً
فاستحالت المرابع كالصريم
قطعوا شريانها النابض المتدفق
طمسوا سنا صبحها المترقرق
واستأصلوا لسانها الحاكي
وأخرسوا نحيب صوتها الباكي
في هوة البئر اعتقدوا خلاصهم المنشود
هيهات لمن ليس لهم ذممٌ أو عهود
منذ الحقب الأولى
منذ مطلع الصبا العهيد
منذ كان المبتدا بعثاً بدا
في كل وجهةٍ له اتجاه
منذ أن أفضى وميضاً من ضُحاه
على سنابل الحنطة
ليكون اكسير الحياة الى الحياة
بحر من الدمع والنجوم الساهرات
يرمقن من على قنن الروابي الساميات
ومراجل الغليان
ترسّختْ في طوية الانسان
بين التضاد والتناغم
إلى النفي والتوكيد
وما بين الصمت والثرثرة
إلى الاقدام والاحجام
اقحامٌ من هنا
لتفريغ المحتوى من محتواه
طمسٌ هناك لكثير المفردات
وبلا مقدمات غمسوا الكف بالدم
ومن ثم طبعوه على وجه الجدار
خشية من عيون الحاسدين
من جُلّ النفاثات في العُقد
من أضمر الأذى وفي طويته عَقَدْ
خرافةٌ قديمة
هي قمة التراخي والاسترخاء
والعدْو سبقاً للوراء
فممن الخشية ولِما
وها هم الودعاء الطيبون
المنغمسون في العمل الدؤوب
في تعبيد الدروب للمُضي قُدما
قد أججوا من فورهم همماً نحو قمما
كي يظلوا قائمين
ليستقوا ريّ العذوبة سلسبيلا
فها هم لم يدّخروا لبلوغ بُغيتهم سبيلا
بلقيس ربة العقلانية والحكمة
على قنن عرشها تربّعتْ متمكنة
أبدتْ مثالاً ما له صنواً مثيلا
نماءٌ وتنمية صروحٌ سامقات وأبنية
قوى مركزية عتاد عسكري
سياجٌ للحماية والأمان مظلة أمنية
فطنةٌ وكياسةٌ وملامحٌ قيمية
غلّبت التعقل والتمهّل والتريث
على المجابهة والمواجهة والتلويح
باستخدام أذرع القوة الضاربة
فأطنبتْ قولاً رصينا
وقدّمت عملاً سديدا
هنا على ضفاف الخالدين
قامت حضارات راسخةٌ
عبر آمادٍ طوال عبر السنين
منذ أن كان المارد الجبار
في بطن أمه جنين
ها هي لغة أمواج المتوسط
التي تعرف أهلها فحدّثتْ مفوهة
من جليل قولها من عظيم نُبلها
بنفس اللغة .. لغة أعماق البحار
التي يصدح صدفها بنفس أبجديتها
من جوف مضمون المحار
ها أنتِ وقفتِ وحدك
تُعلّمين . تُعربين . تُعرّبين
في كل حين تُنقحين . ترسّخين
معنىً جَليّاً لمفرداتك
وتطربين لعميق فيض مرادفاتك
وبعثتِ معناك الشجيّ
بوصف مضمون نديّ لمكوناتك
الى الحمائم أطيار الرُبى
اللواتي وقفن صامدات
فوق هامات الحمى مرفرفات
والى قاماتٍ للنخيل الشامخات
وبعثتِ بصهيل أجياد الاباء
للعاديات الموريات
للواثبات الصافنات
لكن صوت قراءاتك الموحيات
قد امتزج بصوتٍ جاهشٍ مهموم
في صدر الأمومة المكلوم
يا صوت المدائن
الصادح في أعالي البنايات
يا صوت أجراس المدارس والكنائس
الكائن بشعائر الايمان
يا صوت الصلاة المُعلن
من فوق ربوة المآذن
الذي بث في ضواحيها الأمان
يعلو إلى الافاق بالكون الرحيب
مدوّياً بالغاية المُثلى
بالقيمة الكبرى
وبكل ذكرى لها على الدرب أثر
لغةٌ لمواكب الأحياء
ولجوهر الاشياء تملأ الأكوان بالعبر
وللصمت كذلك
لغةٌ أصيلةٌ رصينةٌ سَمية التأمّل
بلحظات الخشوع والتوسل
كما للصخر لغةٌ مؤرخةٌ مؤصلةٌ
وللوجهة بوصلة
ولأوراق الأشجار حفيفها اللطيف
لمن سكنوا المكان بالخريف
منذ فجر الهبوط
منذ فجر البشرية الأول
في رحاب الملكوت
ظلَّ للمكان لغة قيميةٌ قويمة
راسخة وبيان حاذق
لغةٌ متجولةٌ منذ صباحها الباكر
إلى اصفرار شمس أصيلها الساحر عند الغروب
وبين أرجاء المرافق كم تراءى من دليل
رأيتها تُعيد ترتيب المواقع
لمّا أدارتْ ظهرها عكس المَخادع
قامت تُعيد الترتيب التسلسلي
للمناظر والمشاهد
للأحداث والشواهد لكل مغمورٍ وسائد
ورفعتْ من مجالسها الوسائد
التي أصابت بالضمور والوهن
كل من توارى بينها عند الشدائد
عادت تُنقح الجُمل عادت ترسّخ في المُثل
عادت لنا في ثوب يوم عرسها
بملابسٍ فضفاضة تحت ظل صفصافة
وقفتْ رافعة رأسها
شموخها أعادها والتقتْ نظراتها
على عش عصفورة فوق فرعها المُعلق
فكان التعبير أصدق
حينما اتكأتْ عليه فاحتضنها بمرفقيه
ومن قوى بساعديه
قد رمى الفرع ظلالاً من سنا بوجنتيه
على فرخٍ مولودٍ ما زال هش
مسدفئاً بأعواد قش
نقلتها ومن ثم نسّقتها ورتبتها
عزمةْ الامومة الحانية الصادقة
وتلك مفارقة
بين من تحنو ومن رمت صغارها
على قارعة الطريق
هيهات بين فحوى الأمهات الصادقات
وبين من أردن أن يحوزن على اللقب
مجرد اللقب ينتزعنه
قبل توالي الحقب عليهن
فتبرهن احداهن أنها صارت أم
لتهرب بهذا اللقب بعيداً . بعيداً
عن شبح العنوسة
التي كانت قاب قوسين
أو أدنى من أن تداهمها
فتصبح قاطنةً عندها مُلتصقةً بها
كما لو كانت جيناً للوراثة
وعلى مدادٍ للبصر قد ظهر
مكتب بريد الحي
نافذته ذات الحدائد
تنشد نشيد صباحها الشجي
على المارة وأنها خير شاهد
على كل سائرٍ عابر
على جسر وطن المناقب والمفاخر
فمن أمام النافذة قد بدا طريق متعرّج
على جانبيه كم أُضيء من قنديلٍ ليليٍ مُسرّج
انبثق عنه ضوءٌ خافت
كان به بصيص هَدْيٍ للعبور
يتلمّسه البسطاء الطيبون
ليسلّمهم بأمانةٍ آمنين إلى يوم جديد
يتوسّمون به الجديد من الهدأة والسكينة
ومن بوح مكنون المعارف الرصينة
الشارع الفسيح الرحب بكل تحنانٍ وحب
استمهلني فأمهلني ترجّاني توسّلني
أن أبقى بعض الشيء به أن أبقى قليلا
حتى يُعرّفني على أسلافي الخالدين
مشيدو البنايات فاتحو النوافذ
معبّدو الطرقات
من وحي كلماتٍ لأبجدية بقيتْ
فظلتْ هي الأقوم قيلا
وعلى ظلالٍ ظَل يرتجي الصعودَ
مثل قامات النخيل
وثبته نحو الاعتلاء والاستواء
ثباته في أراضيه اباء
فلا خنوع ولا خضوع ولا انحناء
وقد أنشد الشارع
أنشدتْ الحارة والعطفة والذقاق
بأبجدية كل موجودٍ هنا
يؤرخ بها لمجموع الخطاوي
التي وقّعتها أرجل الرفاق
القاطنون أو الذين يعبرون
ومن فحوى معانيها يُعبّرون
عن كل موجودٍ تراءى بها
لمع بأحداقها بعين كل مهرةٍ عربيةٍ
في نواصيها الخير كل الخير معقود
محجلة الوثوب والورود
إلى حياضٍ من ينابيع سلسبيل نهرها
تلك التي وثبتْ للفتوح
على مدى رمالها
تلك التي صعدتْ من نفيرها جبالا
وقطعتْ ودياناً إلى أعالي مجدها
التي صنعته بسنابكها
التي دبت على الأرض بها
تلك الأرض نفس الأرض
التي علّمتها الأبجدية نفسها
الأبجدية التي همس بوقْعها النسيم
وترنمتْ لها العصافير
ووجه الربيع الفصلي الوسيم
والانسان والوديان والريم بالفيافي
منطلقة ببوحٍ من وحيٍ قيميٍ مقدس
والهواء الطلق أحرص
على أن يُنسّمها النسمات يُلقنها الكلمات
لأنها نُسك قدس أقداسه
التي تسطّرتْ على أوراق الشجر
وكان المداد من سيل المطر الزاخر
الآتي من رحم الوجود
مدوّناً بحروف مجد الأبجدية
التي تكلّمتها تحدّثتها ومن ثم وثّقتها
الأحياء والأشياء في ملكوتها
في قلب مدينة أورتليد
أو على حدود ضاحيةٍ قصية
فيالها من أبجدية راسخة الهوية
…..