اشتهر القاضي عياض بنشاطاته المتعددة، فهو مثل أغلب علماء عصره كان من ذوي النزعة الموسوعية، التي تميل بأصحابها إلى التوسع في طلب العلم، في مختلف المجالات التي كانت سائدة في عصره، وإن كانت شهرته العملية قد برزت في مجال القضاء، إلا أن جهوده التخصصية من الناحية التعليمية والتربوية، قد ارتبطت بمجال الحديث وعلومه.
التدريس:
من الواضح أن المصادر المتوفرة عن القاضي عياض، قد قصرت بشدة في التعرض إلى نشاطه في مجال التدريس والإقراء، ومع ذلك فإن هناك شواهداً تدل على أنه وأثناء رحلته إلى الأندلس كان يحدث ويقوم بالتدريس، وهو النشاط الذي سيكون مضاعفاً وزاخراً فورد عودته من رحلته إلى سبتة واستقراره فيها سنة 508ه، حيث تفرغ بعد ذلك للعمل في مجالات التعليم، والتأليف، والقضاء، والشورى. فقد أجلسه أهل سبتة للمناظرة عليه في المدونة، وهو ابن اثنين وثلاثين عاماً- مع توافر شيوخه، الأمر الذي يدل على نبوغه وسمو مكانته العلمية، إذ أن تدريس المدونة والمناظرة فيها في تلك الأيام كان مما يعد من المهام العلمية الجليلة والخطيرة، التي لا يكلف بالقيام بها ولا يرشح لها إلا من تمكن من علوم الشريعة عامة، وعلوم فقه المذهب المالكي وأصوله خاصة .
كان القاضي –رحمه الله- مداوماً على إسماع الحديث وتدريس الفقه وقراءة مصنفاته على الطلاب، لا يفارق ذلك حتى في أقسى الظروف التي شهدتها وعاشتها مدينة سبتة، بل أنه كان لا ينقطع عن مجلسه للتدريس حتى في أيام الفتن والحروب. فمن عجب مثابرة عياض ومتداومته على العلم والتعليم أنه لم ينفك عنه حتى في أيام الحصار والحروب فقد ذكر ابنه فتنة الحرب مع الموحدين وقال: “وهو مع ذلك رحمه الله يُسمع حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم ’ – ويُدرّس الفقه” فقد كان التدريس شغله الشاغل الذي لا يصرفه عنه شيء.
وبالنظر إلى أن انشغال القاضي بالتدريس قد بدأ بشكل أساسي عقب عودته من رحلته سنة 508ه، فإنه يكون قد قضى في التدريس في سبتة وحدها قرابة سبع سنوات استمرت حتى ولايته القضاء سنة 515ه. ومع ذلك فإن القضاء لم يشغله عن التدريس، بل “اعتبرها من أسباب شغل البدن والبال ومحنة ابتلي بها كادت تشغل عن كل فرض ونفل” ثم أن القاضي عياض يتابع عمله في الإقراء والتدريس والإسماع والسماع في مجالسه التي كان يقيمها حيثما كان عمله في القضاء.
عندما عين القاضي في قضاء غرناطة سنة 531ه، أقام فيها مجلساً لإسماع الحديث، وقرأ الطلبة عليه بعض مصنفاته، مثل كتاب الشفاء وكان هذا الدرس محط طلبة العلم من مختلف بلاد الأندلس، كما كان يحضره الكبراء والأعيان، وقد أفاد منه طلبة العلم بتلك البلاد كثيراً، وأظهروا اعجابهم به، و من اجلال طلابه له ما قاله تلميذه ابن القصير (ت: 576ه): “لمّا ورد علينا القاضي عياض غرناطة خرج الناس للقائه، وبرزوا تبريزاً ما رأيت لأمير مثله وحزرت أعيان البلد الذين خرجوا إليه ركاباً نيفاً على مائتي راكب ومن سواد العامة ما لا يحصى كثرة، وخرجت مع أبي رحمه الله تعالى في جملة من خرج فلقيناه شخصاً بادي السيادة منبئاً عن اكساب المعالي والإفادة. . . ولما استقر عندنا كان مثل التمرة، كلما ليكت زادت حلاوة، ولفظه عذب في كل ما صرف من الكلام، للنفس إليه تتوق وله طلاوة، وكان براً بلسانه جواداً ببنانه، كثير التخشع في صلاته، مواصلاً لصِلاته.. ” وهذا يدل على اجلال تلامذته له وعلى مكانته العلمية وتقديرهم له.
وحدث القاضي عياض أيضاً في جامع قرطبة، وقد كانت آنذاك كبرى حواضر الأندلس ومستقر علمائها، وهناك تتلمذ على يديه جماعة من كبارها، في حلقة الدرس التي كان قد عقدها عياض سنة 531ه .
التأليف:
يعتبر التأليف من أهم أعمال القاضي عياض وانجازاته في خدمة الأمة، وإن قارئ كتب عياض ليعجب من قوة عارضته، وعلو كعبه في العلم، وسعة معارفه، ودقة تخريجاته وضبطه وتعليقاته واستدراكاته، ونقده فهو يتكلم في كل علم من العلوم كلام كبار أئمته حتى كأنه متخصص فيه وحده، فلا عجب أن تشيع لدى المغاربة مقولة ضاربة القدم في التاريخ تناقلتها الأجيال جعلت من عياض الفرد علماً على بلاد المغرب بأكملها وسبباً في شيوع ذكرها قولهم: “لولا عياض ما ذكر المغرب”. فأصبح عياض الفرد علماً على المغرب البلد .
والقاضي عياض بلا شك من الموسوعات المعرفية على مستوى تاريخ الأمة فقد كان بحق إماماً رائداً شهد له بذلك كبار العلماء. قال عنه ابن كثير رحمه الله: “كان إماماً في علوم كثيرة كالفقه واللغة والحديث والأدب وأيام الناس”(). وقال ابن فرحون: “كان القاضي أبو الفضل إمام وقته في الحديث وعلومه، عالماً بالتفسير وجميع علومه، فقيهاً أصولياً، عالماً بالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، بصيراً بالأحكام، عاقداً للشروط، حافظاً لمذهب مالك، شاعراً مُجيداً، رياناً من الأدب”.
وهكذا، فقد اضحت كثير من مؤلفات القاضي بمثابة المصادر الأساسية لطلبة العلم والمصنفين على مر العصور، وقد تناقلها أهل العلم في الشرق والغرب، وأثنوا عليها وعلى مصنفها، ووصفوها بالجودة والإبداع.
إن القاضي عياض، على الرغم من أن شهرته قد غلبت عليه صفة القضاء، إلا أنه كان في حقيقة الأمر معلماً ومربياً، تخرج على يديه العشرات من العلماء والمحدثين الأفذاذ، الذين ذكروا معلمهم في أعمالهم، بما كان فيه من سمات وخصائص تدل على سمو فكره التربوي، وعظمة تجربته وخبرته في مجال التعليم، وهي التجربة التي جاءت في نسق الجهود والاسهامات العظيمة التي قدمها فقهاء المذهب المالكي في مجال التربية والتعليم، متأثراً فيها القاضي بالفكر الأشعري، وجاعلاً بين مشاربه ومصادره الفقهية والكلامية تناغماً وانسجاماً رائعاً وبديعاً.