Site icon صحيفة العربي الإلكترونية

موشحات الأبدية بقلم : رمضان زيدان

مهلاً مهلا فلا يأخذك الشره من أول وهلة

فالوجبة دسمة .. إن كان الجثمان سمينا

إن كان البنيان متينا

فالطعمةُ لقمة .. سائغةٌ قد أضْحتْ سهلة

والجسد مسجى لا حول له أو قوة

قد أمضى صولة من بعدها صولة

بطرائق ودروب شتى يتبارى يستبق ويرمح

يعدو يفتخر ويزهو يخفق أحياناً أو ينجح

يوغل في كدٍ بالحرص تمادى

كم صدح بالصوت ونادى

يا صُحبة أيامي دعوني وضعوني رويداً وسكينة

كم رمقوا في سمت جبينه

فأمامكم تنقضيّ أهلة

تتوارى جبلة من خلف جبلة

فاتركوا الراحل يغفو بين أذرع الكرى

كي يغطُّ في سُباته العميق

ليستحيل رامقاً في مهاوي الردى

وفي بواطن الذاكرة مُختزَلَه

قد تبدّى ضارعاً في سكوت

متمتاً لعَمري إن العمر ينقضيّ يفوت

إن كان الإنسان التابع أو رافع شعلة

إن كان القائد أو شخصاً عادي الطلّه

تطلعات . مقومات . طامحات بالروح تطير

فوق البساط لعوالم خاصة

تعلن عن مجدٍ وخلاص ينتزع الغصة

قد حاكت للروح معانيها العذبة

ترتقي فوق الآفاق بوثبة

قبل البدء كان للقادم للحاضر للماضي خواطر

وشريط للأحداث يدور بخلده

وهو في جوف الأرض

إلى جانب جده أباه أمامه

وعلى يمينه فلذة كبده

كان هنا يترجّل وحده يخاطب نفسه

كأن التّوجه بإمعان حثه

يعلِّمها يحاورها يثور عليها يعاتبها

يخاطبها يواجهها يوجّهها

مستلهماً روح الحكمة من قصص الأولين

من نماذج بشرية في كل حين

من كل سِفرٍ معين

من كل أرضٍ قد مر في يوم صحوٍ عليها

من قراءات يخلد أخر الليل إليها

بينما يخيّم الصمت على الأشياء حوله

كم راح يتواسى بها يتأسى بالحِكم من خلالها

يتلو ثم يسبح في الملكوت

متأملاً متدبراً في ( إن أوهن البيوت .. )

ثم يقرأ ثم يسرح ثم يطنب من جديد

لكل شاخص ترسمه اللفظة المجردة

في معاني تفرده

رأسه تميل طرباً حيث كان

بين صفحات البيان

يتقمص شخصية البطل الأسطوري

في الرواية في تتابع الحكاية

كان يصنع عالمه الخاص الذي لم يَكُنه

يصنعه لنفسه كل ما تتمنّى نفسه

من شمائل المزايا

كان هناك على الموقد يُعد طعامه المفضل

حتى إذا طرق على بابه ضيف يعاجله تفضل

كان ينشد الموشحات عند هطول المطر

يأخذه المنظر البديع فيطير

بخياله لعالمه المطير

تتوالي وتمر عليه مشاهدٌ بالخاطر

أمنٌ وأمانٌ ومخاطر

يروح ويغدو يذهب ويعود

يفضي ما اختزله والخلق رقود

تبوح بواطنه وعليه شهود

أهلٌ ورفاق ومواقف كبرى

صقلتها تجارب تشتمل العِبرة

من بين معين الأحداق تبادره العَبرة

تلتاع النفس لخوالي الأيام تروح

من فوق الأرض لباطنها يمتد نزوح

لمواكب تلو مواكب تلك مواكب

يستوي فيهم الراجل ومنعمُ راكب

فانقشعتْ ظُلمة بومضة ضوء

عند بزوغ الفجر تنفّسها الكون

ليصيح بشهقتها الصبح

قنديل الإصباح تجلى بوجهٍ وضّاحٍ يتدلى

فتبرق للأمل المتقد أشعة

رغدٌ ورخاءٌ وسكونٌ وملامح دعة

آتية من جوهر الزمن التليد

واثبة لتفتح في كل وصيد

تطوف من حولها

عرائس الفردوس السماوي

المنتصبة أمام نُصب قدسها المقدس

ومقالٌ للحال تحدّث

يُبارك مبتهجاً طوّافاً حوله

وفي رحاب السمو العلوي تمَلّى

ها هي مخلوقات النور تدور

تمد أجنحتها البيضاء

تلامس ومضات مُقلها النجلاء

وماء عينها يغسل وجه النهار

فتسكن الرياح السافيات وثورة الغبار

تمس رُقيا جمالها بطرفها الأخاذ

لتطبب في سقمٍ يواري عِلّة

تقدموا يا مواكب الحضور للواقع المنظور

كل غائبٍ سيعود لثراها سوف يأتي

وكل من رآها جاء يُسدي

مهدهداً مرتلاً لسلامة الروح

يشدو أناشيد انعتاقه يأخذه الامتثال

مذعناً بقوة في حضرة الجلال

وها هو الراقد المسجّى

والأرواح البريئة بسمتها الملائكي

تفترش الطرقات بمكنونها الخفي

عيونهم تُقبّل وجنتيه لحظة الوداع

لتعكس بريقها فوق ناصية الجبين

صرخة الحنين الزاد والمتاع

الذي تملّكهم ساعة الفراق

وأناملهم الوردية تلامس بوداعةٍ

خطوط كفه المشرعة للتملي

وشفاه الشيوخ تتمتم مباركة

انتقاله إلى العالم الآخر

ليتلاشى ماضيه وحاضره جُملة

حيث هناك الرغد من فيض وفير

ومجرى رقراق الغدير

فلا أرض توجد للصراع عليها

ولا زمن يعاجل من أقاموا لديها

فالعالم الهانئ هناك رحب

لا عواصف لا هبوب ولا خطوب

لا اقتتال ولا نزاع كما في العالم الأرضي

أبدا لا يوجد عند اللقاء والوداع

غير المحبة والوداعة والإخاء

سلامٌ سلام يضم الأنام أيكٌ وغصون وفروع مظلّة

رفرفت الروح في رحاب الانطلاق

سابحة بعالم الانعتاق

فطارت بعيداً . بعيداً فوق أجواء الفضاء

فوق هامة البروج ونضارة المروج

قد تغشّاها وشاح المساء بوجه القمر

وعند الضحى وهج الشموس

بقلب الحياة بدا وابتدر

والسعف المُخْضر يداعبه الهواء العليل

على شموخ النخلة

وعند الشواطئ موج البحور

أنشد للكون فوق الصخور

تراتيل وجْدٍ سقاها الحبور

وبين الربوع جمال الزروع

قد حدّثتها عيون السواقي

بصوتٍ شجيٍ حين يلاقي

غيد الوسامة بين الحقول

ومهما تقوّل فيها يقول

فلا لم يعد يسمع لها

سوى صوت لحن لأرض الخلود

فلا لم يرى لمن حوله أيَّ وجود

من نبض حيٍ صاح المنادى وشَرَعَ ينادي

على من على أعناقهم حملوه

وقد شيعوه لحق الديار ومثوىً أخير

أيها الرفاق انتهت الرحلة فحق المصير

فاخلعوا عنه وشاح الحياة

ليمضي سمياً لأسمى مناه

وهذا اتجاهٌ نحو النهاية

تبارت إليها صنوف المنايا

لتسكن فيه خواص الجسد

أطلقوا له دخان المباخر

حتى يفوح عبير الأبد

وامسحوا عليه بدهن الطيب

ليبعث مداه بروضٍ رحيب

لكن سيبقى عزاءٌ وحيد

رواح إليه بيومٍ مجيد

أيها الودعاء لبّوا النداء

بعد إلقاء النظرة الأخيرة

كما وعدتموه بسربلةٍ وثيرة

سربلوه بغصون الياسمين الفينيقي

والزنبق وشقائق النعمان الآشوري

وأوراق التوت على ضفاف النيل

من الندى مبتلة

الآن ترنموا أهازيج الحصاد

واللون الذهبي للغلال بالربوع ساد

وخبز الحنطة بالتنور زاد

رتلوا أنشودة البقاء السرمدي

واحفروا على التابوت الأبنوسي

قسمات روحٍ تبث المباهج

فتلك الأواصر أصل الوشائج

لا تتشحوا سواداً عليه

بل طالعوا بريق عينيه

لترون فيها تباسيم الفرح

واقرؤوا التعاليم التي خطها والوصايا

قيمٌ سمية تقود نحو غاية عظمى

من خلالها يجتاز كل أزمة بعزمة أبية

لا تتكلموا عند مُضيه في ثبات

والتزموا السكوت والسكون

بحضرة المنون سمات من صفات

تلك هي مهابته فلتغمضوا عيونكم هنيهة

شيئاً من الخشوع يُحي في القلب أقله

على متن راحة البساط الندي

اعبروا لعالم الخلد السعيد

ومواكب الرحمات تشدو فاليوم يوم عيد

حينما صعد بميقات وميعاد

نحو العالم الآخر كي يستعيد

مبتغاه في أرض البقاء

ها هو بعد غيابٍ طال جاء

فمددوه على الأغصان المورقة

ولترفعوه على الجيود الشاهقة

وامضوا به لمرقد الوئام

واحملوه إلى مقر راحته إلى عوالم فرحته

حيث ينبت النسرين جوار أصحاب اليمين

حيث يفوح الأقحوان على جبين التله

مددوه بهدوءٍ فوق الأمهدة الرحيمة

ومن ثم اغمروا جسده بالتُرب الخصيب

من تحته أنهر الريان تجري تسري

ثم تروي ظمأ أمه الأرض العظيمة

انثروا على جثمانه بذور الياسمين والسوسان

حتى تقتات من عناصر جسده العيدان

وتزهر غصونها وتخرج نضارة صباها

وتبعث في الربوع فواح كيانه الريحان

ونبض قلبه الريعان

ماهية نفسه والوجدان وأفاضل نِحلة

تتعالى في وجه السُحب والشُهب والنجوم

سريرته النقية الذكية يعانقها النسيم

الذي تغدقه أنفاس الحياة بطبعها الوسيم

دعوا أسراب الحمائم تطوف فوق رأسه

ليرون في عينه من النفحات ما لا ترون

ويسمعوا صوت الخلود

في تراتيلٍ موحيةٍ رائعة على المسامع ذائعة

من خفقان قلبه المنتفض الرعّاش

وهو مبتسم الثغر لنملة

مرت أمام عينه على جانب الفراش

حدثتها نفسه ترقّبها كيانه حدثها وجدانه

قائلاً : مهلاً . مهلاً فإني قادم

إلى مواكب النمل من بني جلدتك

فأرينا همتك ساعة اللقاء

حين تصطفين في صفوفٍ في طوابير المساء

حين تستبقين إلى وجبة العشاء

وقتها تسرحين وتمرحين

فوق الجسد الذي كان بالأمس أنيق

فانطفئ من ومض عينيه البريق

حينما ينهال الثرى عليه وساعديه إلى جانبيه

وقد انتُزعت منهما خاصية دفعهما الذاتي

وقوة الدفاع وصولة الأبي

حتى الساق التف بالساق

واتجه للأُخرى المساق

لكن عزائه المأمول أنه مطمئن البال

لنفحةٍ علوية لمرحمة لرفعةٍ لمَكْرَمة

لدعوةٍ بالراحة الأبدية له

رددوا التواشيح بمقاماتها طرباً وفرحا

وتقدموا لملاقاته عَدْواً ورَمْحا

والتفوا حول جثمانه العائد

من دروب العناء والشقاء والآلام الجِسام

على جبينه إكليل طوق وبه شوقٌ

حيث سار على الممر لروضةٍ لمستقر

لمرقد السكينة والسلام

ها هي عرافة سربكم خاطبتكم ناصحة

أن أدخلوا مساكنكم زمرةً وأطْنبتْ شارحة

لاستفهامكم لتعجُّبكم موضحة

ليحطمنكم سليمان الحكيم وجنده

من بعد الهدأة تكالبوا على صيدكم الثمين

لطفاً عفوا .. على رسلكم رفقاً رفقا

بمن دفنت وفي أحشائها جنين

يا أمة النمل الحصيف

قد مرت سنين طوال كألوان طيف

بالضحى مرور ضيف

كالذي أضحى لسربكمُ هدفاً وعُرضه

وإني لأستشعر فحوى الكلمة

التي تنطقون مفردها بغير لغة

خالية من التعقيدات والاستعارات

والجوازم وحروف العلة

عشيرةٌ أنتم لإحدى الأمم

كلٌ تبارى ليلحق بالغنيمة خِلّه

فرددوا تسبيحكم الذي لا نفقه له أبجدية

وابتهالكم لسكون الروح في الحياة السرمدية

إذا ما انتهيتم من طعامكم وفنا الجسد

أعطوا لمن احتضر وسار نحو أخراه وارتحل

ميثاقكم بدعاء دهرٍ مُدّخر

فوعد الحُر دينٌ إذا ما يوماً وعد

أطلقوا الدعوات بالغفران له

من ثغرٍ مبتهجٍ وسيم القسمات بهي الطله

وخفوق قلبٍ في رحاب الكون بالسماء تجلى

…..

zidaneramadan@gmail.com

Exit mobile version