إنّ اللّغة ظاهرة ميّز الله بها الإنسان عن غيره من الموجودات؛ فأصبح الإنسان مهتمًا لها منذ قديم الأزل لأهميّتها البالغة في تحقيق أغراضهم الحياتيّة؛ إذ بلغت تلك الأهميّة عند الشّعوب والقبائل القديمة ارتباط اللغة بتأثير اللفظ وسحر الكلمة، واختلاط الاسم بالمسمى في عادات وتقاليد تلكم الشّعوب والأقوام، ولقد تفطنت أذهان العلماء في العصر الحالي إلى مدى تأثر وتأثير اللّغة بالمجتمع، وتوصلوا إلى أثر الرّابط الموجود بين اللّغة وبين نفس الإنسان، وتشكّلها
وفق الانفعالات والعواطف الوجدانيّة لدى بني البشر( عبد التّواب:دت).
وقد كان الهدف الأساسيّ عند هؤلاء اللّغويين؛ محاولة رسم معالم اللّغة سواءٌ أكانت أدبيّة نثريّة أو شعريّة؛ انّطلاقًا من القواعد المقررة عند علماء اللّغة؛ أنّه يستحيل على مجموعة بشريّة، تعيش في مساحة أرضيّة شاسعة، أن تصطنع في حديثها اليّومي لغة موحدة تخلو من اختلافٍ صوتيّ أو دِلاليّ أو اختلافٍ للألفاظ في البنية أو الترّكيب، و هذه القضيّة ليست بحاجة إلى برهنة؛ كسنّة كونيّة في اللّغات لا تقتصر على اللّغة العربيّة وإنما أيّة لغة أخرى. من هذا
المنطلق وددتُ في هذا المقال أن أوضّح مفهوم فقه اللّغة عند القدامى من علماء اللّغة العربيّة.
وأبيّن كيف أنّ للعلوم أن تنطلق وفق الزّاوية المتناولة فيها.
إن أوّل من استخدم مصطلح فقه اللّغة من القدامى ، كان ابن فارس في كتابه (الصّاحبيّ في فقه اللّغة وسُنن العرب في كلامها). بعدها ورد كتاب (فقه اللّغة وأسرار العربيّة ) لثعالبيّ؛ إلا أنّ كلّ عالمٍ عرّف علم فقه اللّغة؛ بتعريفٍ يناسب زاوية بحثه في علوم اللّغة العربيّة، فقد عرّفها ابن فارس: ” بأنّها دراسة القوانين العامّة الّتي تنتظم اللّغة في جميع مستوياتها الصّوتيّة والنّحويّة والصّرفيّة والدّلاليّة والأسلوبيّة ” (ابن فارس:2000)، وعرّفها الثّعالبيّ: ” علمٌ خاصّ بفهم وفقه المفردات وتمييز مجالاتها واستعمالاتها الخاصّة والاهتمام بالفروق الدّقيقة بين معانيها”. (الثعالبيّ: 395هـ) ، وقد ترجم ابن خُلدون رؤية الثّعالبيّ في تعريفه لمفهوم فقه اللّغة بقوله: ” ثم كانت العرب تضع الشّيء لمعنى على العموم، ثم تستعمل في الأمور الخاصّة؛ بها فرق عندنا بين الوضع والاستعمال واحتياج النّاس إلى فقه في اللّغة عزيز المأخذ، كما وضع الأبيض بالوضع العام لكلّ ما فيه بياض، ثم اختص ما فيه من البياض من الخيل بالأشهب، ومن الإنسان
بالأزهر،حتى صار استعمال الأبيض في هذه كلّها لحنًا، وخروجًا عن لسان العرب. واختص بالتّأليف في هذا المنحى الثّعالبيّ و أفرده في كتابٍ له سماه فقه اللّغة “(الخمّاش:2023، وابن خلدون 2004).
إنّ سبب اختلاف المفهومين عند كلّ من ابن فارس والثّعالبيّ في تعريف فقه اللّغة؛ نتج عن اختلاف مفهم كلمة لغة فقد استعملها ابن فارس على نحوٍ واسع تلك الوسيلة الّتي استخدمها الإنسان لتعبير عن أغراضه الحياتيّة سواء أكانت كلمة أم تركيبٍ لغوي أي تناول المفهوم بصورة تشتمل كلّ علوم اللّغة من نحووصرفٍ ودِلالةٍ. أمّا الثّعالبيّ استعمل الكلمة في شكلها الضيق المتمثل في معناها الخاصّ الكلمة ومفرداتها؛ الّذي يُترجم لنا أنّ فقه اللغة عنده هو فقه
المفردات لا التّراكيب ولا الأساليب (الخمّاش:2023، والثّعالبي: 2000).
علل ابن فارس رؤيته الواسعة لمفهوم كلمة لغة السّابقة؛ ما أورده في مقدّمة كتابه الصّاحبيّ ” إنّ لعلم العرب أصلاً وفرعًا؛ أمّا الفرع معرفة الأسماء والصّفات كقولنا “رجلٌ” و”فرسٌ”، و” طويلٌ و” قصيرٌ” وهذا الّذي يبدأ به عند التّعلّم. وأمّا الأصل فالقول على موضوع اللّغة وأوّليتها ومنشئها، ثمّ على رسم العرب في مخاطبتهم، وما لها من الافْتنان تحقيقًا ومجازًا (ابن فارس:395ه).
نستخلص فيما سبق أن فقه اللّغة يقصد به الفهم الدقيق والعميق لعلوم اللّغة العربيّة؛ وهذا ما أكّده علماء اللّغة المهتمين في دلالات الألفاظ والكلمات؛ فقد عرّف الجوهري (1987) صاحب كتاب الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، وابن منظور (2023) في معجم لسان العرب أنّ فقه اللّغة من النّاحية اللّغويّة هو: فَهمُ اللُّغةِ، والعِلمُ بها، وإدراكُ كُنْهِها.
المراجع ابن خلدون، عبد الرحمن أبو زيد ولي الدين (2004). مقدمة العلامة ابن خلدون المسمى ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر. بيروت: دار الفكر. ابن فارس، أبو حسين أحمد بن فارس بن زكريا( 395هـ ). الصاحبي. دط . ابن فارس، أحمد بن زكريا (د:ت). معجم مقايس اللغة. تحقيق عبد السلام هارون، بيروت.
ابن منضور (2023) معجم لسان العرب. الثّعالبيّ، أبو منصور عبد الملك بن محمد (2000). فقه اللّغة وأسرار العربيّة . المكتبة العصريّة بيروت ط2. الجوهري، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (1987). الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية. دار العلم للملايين. بيروت. ط4. 6ج. عبد التّواب، رمضان (دت). المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي. موسوعة اللّغة العربيّة – الدرر السّنيّة –(2023) …. تاريخ الاسترجاع 23-10-2023م.