في هذا العالم المضطرب ، تخيم أجواء من عدم اليقين بسبب صعوبة توقع ما سيحمله المستقبل من مفاجآت. لقد أصبح سكان هذا العالم محشورين في قارب هش تتقاذفه الأمواج العاتية؛ بينما شاطئ النجاة يبدو بعيدًا، وسيكون الغرق هو المصير المحتوم ما لم تَحدث معجزة. إنه عالم وحشي لا يرحم، محكوم بالنزعات الفردية الموغلة في الأنانية والإقصاء وصراع المصالح وسياسات “أنا ومن بعدي الطوفان”. صحيح أن هذه كانت هذه سنة الحياة منذ وجود الإنسان على هذه الأرض؛ لكنها بلغت في عصرنا الحالي حدًّا لا يطاق، يأكل فيه القوي الضعيف بلا رحمة. إنها سياسات “الأسماك الكبيرة تأكل الأسماك الصغيرة” في نهم لا ينتهي.
إنها الصورة التي رسمها الحديث الشريف للقوم الذين استهموا على سفينة “فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا”. صورة تمثل اختلال العقل وغياب الحكمة وانعدام التوازن.
ثمانية بلايين إنسان على هذه الكرة الأرضية يقاتلون ويتقاتلون الآن من أجل البقاء بكل الأدوات المتوافرة لهم؛ للحصول على حصتهم من المصادر الطبيعية المحدودة الناضبة.
كان لا بد من هذه المقدمة لنعرف قيمة دورنا في كل ما يجري.
ولأننا جزء من هذا العالم ولا نعيش في جزيرة معزولة؛ فلسنا بمنأى عما يجري فيه من صراعات وحروب ونزاعات بعضها قريب منا وبعضها بعيد؛ لذلك فنحن نتأثر بها ونؤثر فيها.
لقد منح الله بلادنا نعمًا لا تحصى، أولها رسالة الإسلام وأقدس مساجد الله، ثم الموقع الجغرافي والثروات الطبيعية، وسخر لها قيادة مؤتمنة على هذه الهبة الإلهية ومن ورائها شعب يؤمن برسالتها ورؤيتها.
في علم السياسة، على من يمارسها أن يعرف ما هو دوره وأن يمارسه، ويواجه من يحاول أن يسلبه هذا الدور، ومن الواضح أن قيادة المملكة -ممثلة في سمو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان- يعي هذا القانون ويسعى إلى فرضه بكل اقتدار على الرغم من محاولات قوى الجذب العكسي بمختلف ألوانها ومواقعها القريبة منها والبعيدة.
بعد طرح رؤية المملكة 2030 قبل خمس سنوات، وبعد إعادة هيكلة المؤسسات وتنظيف البيت الداخلي من بؤر الفساد ومن الذين كانوا يخونون الوطن من أجل حفنة دولارات، وتحقيق نمو اقتصادي فاق النمو العالمي بتنويع مصادر الدخل بناء على خطة استراتيجية، والتميز في المواقف السياسية الشائكة، والتمسك بالقرار الوطني المستقل؛ انطلق سمو ولي العهد لممارسة دور المملكة الحضاري في إعادة شيء من التوازن للنظام الاقتصادي والسياسي العالمي المختل، وكان حضوره لقمة التغير المناخي وقمة العشرين وجولته في إندونيسيا وكوريا الجنوبية وتايلاند وحضوره قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ “APEC”، وما رافق ذلك من تغطية إعلامية واهتمام سياسي غير مسبوق من قيادات الدول التي زارها؛ شاهدًا على أهمية دور المملكة في هذا العالم.
وعلى الرغم من تركيز الجولة أساسًا على التعاون الاقتصادي والاستثمار المشترك؛ إلا أن سموه لم ينسَ دور المملكة في خدمة القضايا الإسلامية؛ فجاء قرار إعمار المركز الإسلامي العالمي في جاكارتا واستقباله لأعضاء المجلس المركزي الإسلامي في تايلاند ضمن هذا الدور.
لقد كانت الرسالة من قيادات هذه الدول لسموه واضحة: “نحن نثق بك”؛ في الوقت الذي باتت فيه الثقة معدومة بين قيادات العالم السياسية؛ لذلك يجب البناء على هذه الثقة وعدم التوقف عن اغتنام كل الفرص التي ترتقي بدور المملكة ومكانتها وتجعل كثيرين يبنون حسابتهم على هذا الأساس؛ فالمملكة باتت لاعبًا لا يمكن القفز عليه أو تجاهله. ومع ذلك فإن المهمة لن تكون سهلة؛ لكنها ليست مستحيلة أمام قيادة تمتلك إرادة سياسية لا تقبل المساومة على المبادئ