أمامَ شاشةِ التِلفاز، وضوء الغرفةِ الخافِت أجلسُ بقدمٍ تعلو قدم، أتأمّلُ نشرةَ الأخبارِ المسائيةِ التي يُقدّمها مذيعٌ طويلُ القامةِ، عريضُ الأكتافِ ذو تسريحةٍ مقسومةٍ بدّقةٍ عاليةِ يمنة ويسرة، يُعلنُ بصوتهِ الخشن أن شتاءَ هذا العامِ يختلِف عن بقيّة الأعوام، حيثُ البرد القارِس ودرجاتُ الحرارةِ المُنخَفضة والهواء الذي يَفترِس العظامَ قبل الجِلد، نظرتُ إلى ساعتي الخَشبيةِ التي أهدتني إيّاها جدّتي في عيدِ ميلادي العاشر، حيث تفوحُ منها رائحةِ الياسمينِ المختبئة بينَ ثنايا الخشبِ القديم، نظرتُ إلى الساعةِ وإذا بِها تركضُ نحو الواحدة بعدَ منتصفِ الليل.
وَقفتُ متّكئًا على كرسيّ غرفتي الخشبي المُزعج الذي ما إن يتحرّك حتى يُصدرُ صوتًا مُزعِجًا يتعاركُ مع أذني رغم أني اعتدتُ عليهِ كثيرًا حتى أصبحَ مقطوعًا أتأرجحُ بِها متعمّدًا أثناء الكتابةِ ومشاهدةِ التلفاز، فاضطَجعتُ على فراشي الدافئ جدًا ومددتُ قدمي المُتنمّلة من كثرةِ الجلوس على ذلكَ الكرسي الذي لم يعرف للراحةِ من معنى أبدًا، أغَمضتُ عَيني المُثقلة وأرخيتُ كِتفاي المتعبينِ جدّا بعد يومٍ طويلٍ وشاق.
وما إن أغمضتُ عيني وإذا بِك تتفجّرينَ من ظلمةِ العينينِ نورًا أبصرتُ بِه سعادةً كَسعادةِ الأجدادِ بملمسِ المسابيحِ وبصوتِ أوراقِ المَصاحفِ بعد كلّ صلاة، تتشكّلينَ أمامي كهيئةِ الطيرِ فأنفخُ فيكِ حّبًا حتى تصبحينَ بازِغةً أمامي كثنايا السماءِ الدنيا فيبدأُ حديثنا الطويلِ جِدًا.
كَيفَ حالك؟ فأجيبُ أنني لم أعلم حالًا أفضلُ مِن أحوالي حينما سَقطتِ على رِمالِ قلبي وحينما انهَمرتِ على جفافِ صدري حتى صَيّرتِني مُدنًا مِن السعادةِ وعوالِمًا من الراحةِ وحرمًا تطوفُ عليهِ أعينَ المآرةِ مندَهشينِ من سر ابتسامتي التي كانت بسببك يا أعظمَ الأسباب!
اشتَقتَ لي؟ فأجيبُ أنَي أشتاقُ إليكِ كَشوقِ العُصاةِ إلى مغفرةِ الله، كَتَلَهّفِ الداعِ إلى إجابةِ ( الآمين ) كَشوقِ العالمينَ لِربّ العالمين، أشتاقُ إليك كَشوقِ معاطف الأرضِ لأحضانِ المَطر كشوقِ أصابع الماءِ إلى كفوفِ الوردِ والزهر، كشوقِ البِحارِ إلى وجناتِ الشواطئ الهادئة، كشوقِ السماء إلى تَعانِق السحبِ الماطرة.
تحبّني؟ أَحبّكِ حبّ العجَينةِ لأصابعَ أمي الطاهرة، كحّب الخبّازِ إلى عَجينتهِ الفاخرة، كحبّ الفلّاحِ لِتربَتهِ الساحرة، كحبّ البحارِ لأمواجِ البحرِ الماكرة، كحبّ التربةِ لأدمعِ السحبِ الماطِرة، أحبّكِ كاحتضانِ الرسّام لِفرشاتِهِ والموسيقي لمعزوفاته والأديب لكتاباتهِ وحبّ أمّي لأبنائها وإخوتي لتربةِ أمي الطاهرة.
تتبسَمينَ فَيبَتسِمُ كلّ شيء قبل أن تُعانِقينَ جسدي المُتعبَ قائلةً بِصوتٍ أقربُ للواقعِ من الحلم، أحبّك فَنَمْ أيها العزيزُ على قلبي دائمًا….