سميت هذه الغزوة بالخندق نسبة إلى الخندق الذي حفره المسلمون في المدينة ومعناه حفرة مستطيلة حول منطقة معينة وتحفر في ميادين القتال لتحصين الجنود وحمايتهم من الغارات، وأطلق البعض الآخر عليها اسم غزوة الأحزاب نسبة لمجموعة القبائل التي تحزبت (تجمعت) لغزو المدينة والقضاء على المسلمين والدولة الإسلامية، وكانت الغزوة في شهر شول من العام الخامس للهجرة الموافق لشهر مارس لعام 627م.
سبب غزوة الخندق :- كان السبب الرئيسي هو نقض يهود بني النضير عهدهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام بعد محاولة قتله، فوجه عليه الصلاة والسلام إليهم جيش وحاصرهم حتى استسلموا وأخرجهم من المدينة، فهم اليهود بالانتقام من المسلمين وقاموا بتحريض القبائل العربية لغزو المدينة فأستجاب لهم قبيلة قريش وحلفاؤها (الأحزاب) وأنظم لهم يهود بني قريظة الذين كانوا في جنوب المدينة وكان بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق.
نبذه عن جيش المسلمين وجيش الأحزاب :-
- جيش المسلمين :- كان عدد جيش المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة قائد هذه الأمة محمد عليه الصلاة والسلام.
- جيش الأحزاب :- كان عددهم عشرة آلاف مقاتل، 4000 من قبيلة قريش والبقية كانت من قبائل بني سليم وأسد وفزاره وغطفان وأشجع وكان الجميع تحت قيادة أبو سفيان ابن حرب (قبل إسلامه).
فكرة حفر الخندق وتفاصيله :- علم المسلمين بتحركات جيش الأحزاب للمدينة وأجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام بقادة الجيش للتباحث في الأمر وأقترح الصحابي سلمان الفارسي فكرة بناء خندق حول المدينة يمنع دخول جيش الأحزاب لها، وأجمع القادة على هذه الفكرة واختاروا الحدود الشمالية للمدينة لأنها منطقة سهلة الاقتحام، حيث أن المنطقة الشرقية والغربية وعرة ومحصنة بالجبال، أما الجهة الجنوبية ففيها يهود بني قريظة المتعاهدين مع المسلمين، فبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام بتقسيم عملية حفر الخندق على الصحابة الكرام لكل عشرة رجال مسافة 40 ذراعا أي حوالي 30 مترا، وكانت أبعاد الخندق بطول خمسة آلاف ذراع وعرض تسعة أذرع وعمق سبعة أذرع إلى عشرة، وأنجز المسلمون الخندق في زمن قياسي مدته ستة أيام رغم اعتراض صخرة صلبة للحفر فقام الرسول بضربها ثلاث مرات بالمعول وهو يسمي الله فأصبحت رملا.
أحداث غزوة الخندق :- كانت الأحداث كثيرة ومشوقه وسوف نفصلها في عدة نقاط كالتالي : - بدايات من جيش الأحزاب:- وصل جيش الأحزاب إلى المدينة وقاموا بحصارها وتوقعوا مقابلة جيش المسلمين وقام فرسان من قريش هم عمرو بن ود وعكرمة بن أبي جهل ونوفل بن عبد الله المخزومي على خيلهم وخرجوا فوجدوا الخندق وقالوا” والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها” وبحثوا عن مكان ضيق لاقتحامه وتم لبعض خيلهم ذلك، وطلب عمرو بن ود المبارزة وقال “من يبارز؟” فخرج له علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين وتبارز معه فقتله وقتل ابنه حسل بن عمرو بن ود وعادت خيلهم منهزمة، وحاول نوفل اجتياز الخندق وسقط فيه فقذفه المسلمون بالحجارة فقال: “يا معشر العرب، قتلة أحسن من هذه” فنزل علي بن أبي طالب للخندق وقضى عليه، وأستمر الحصار لأيام حاول المشركون فيها بعدة محاولات بليغة لاقتحام الخندق وإيجاد طريقة لتجاوزه ولكن كانت مكافحة المسلمين بالنبل قوية وأفشلت جميع محاولاتهم ولكنها شغلت المسلمين عن بعض الصلوات حتى فاتت عليهم، خاصة في اليوم الذي استمروا فيه مقاتلة كتيبة غليظة من المشركين حتى دخول الليل أدت لخروج وقت صلاة العصر فقال الرسول عليه الصلاة والسلام “ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس” ودام ذلك الحال عدة أيام لم يكن فيها قتال مباشر بين الجيشين بسبب الخندق، واقتصرت على المراماة والمناضلة التي نتج عنها قتل ستة من المسلمين وعشرة من المشركين.
- نقض بني قريظة العهد مع المسلمين:- كانت هناك خشية لدى المسلمين من غدر يهود بني قريظة ونقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، ووقوعهم بين اليهود والأحزاب في القتال، وسمع بذلك الرسول عليه الصلاة والسلام فأرسل الزبير بن العوام لمعرفة الأخبار التي أكدها الزبير في عودته، فبعث الرسول عليه الصلاة والسلام وفدا من سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبدالله بن رواحة، فرجعوا بتأكيد غدر اليهود، الذين أرسلوا عشرون بعيرا محملة بالتمر والشعير والتين لجيش الأحزاب إلا أنها أصبحت غنيمة للمسلمين بعد أن ترقبوها وصادروها من اليهود قبل وصولها للأحزاب.
مفاوضة الرسول عليه الصلاة والسلام لقبيلة غطفان:- أختار الرسول مفاوضة قبيلة غطفان لمعرفته أن هدفها هو المال وليس السياسة (وهذا ذكاء من الرسول) وعرض عليهم ترك محاربته والعودة لقبيلتهم فأستجاب القائدان عيينة بن حصن الفرازي والحارث بن عوف المري من غطفان لعرض الرسول المبدئي وطلبه الذي كان في الخفاء لعقد صلح بينهما، كان من أهم بنوده دفع المسلمين ثلث ثمار المدينة لسنة واحدة، وعندما أستشار الرسول الصحابة رفضوا العرض فقال الرسول عليه الصلاة والسلام لعيينة والحارث ” فليس لكما عندنا إلا السيف “وتناول سعد بن معاذ صحيفة الصلح ومحاها.
اختلاف الأحزاب ونفككهم في المعركة:- كان هناك صحابي جليل أسلم قبل غزوة الخندق يدعى نعيم بن مسعود الأشجعي من قبيلة غطفان ولم يعلم قومه بإسلامه، وذهب للرسول، فحثه على المساعدة وكانت لديه حيلة ذكية بدأها بزيارة يهود بني قريظة وخوفهم من انسحاب الأحزاب وتركهم للمسلمين للانتقام منهم لأنهم في المدينة وأقترح عليهم طلب رهائن من قريش من أجل القتال، ثم ذهب لقريش وأبلغهم بأن اليهود سوف يطلبون رهائن لضمان القتال معهم وحثهم على الرفض وعدم القبول، ثم أتى غطفان وحذرهم بالمثل، وأثمرت هذه الحيلة الذكية بفضل الله في التشكيك بين يهود بني قريظة و الأحزاب وتفككهم وتهبيط عزيمتهم واختلافهم وتفرقهم.
اشتداد الكرب على المسلمين ودعاء الرسول عليه الصلاة والسلام:- بعد أن اشتد الكرب على المسلمين من الحصار طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام شيء يقولونه، فقال : ” نعم، اللهم أستر عوراتنا وآمن روعاتنا ” ودعا الرسول على الأحزاب فقال ” اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم “.
انتصار المسلمين في غزوة الخندق:- بفضل الله ثم بدعوة المصطفى عليه الصلاة والسلام استجاب الله تعالى لنبيه والحيلة التي قام بها نعيم بن مسعود وأرسل الله عليهم الريح الباردة الشديدة وألقى الرعب في قلوبهم وأنزل جنودا لم يروها من عنده كما ذكر تعالى في سورة الأحزاب ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ” (الأحزاب –9).
مكتسبات المسلمين من غزوة الخندق:- - نصر الله للمسلمين وهزيمة الأحزاب وعودتهم بخيبة الأمل والغيض والانكسار، وما النصر إلا من عند الله.
- انكشاف غدر يهود بني قريظة وحقدهم على المسلمين في أحلك الظروف وأصعبها وظهور نواياهم الخبيثة.
- صدق إيمان المسلمين وصبرهم على الكرب ووقوفهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام وظهور حقيقة المنافقين.
- غزوة الخندق كانت الطريق الذي مهد للمسلمين المحاسبة الفورية ليهود بني قريظة وغزوتهم في عقر دارهم.
- حسن قيادة الرسول عليه الصلاة والسلام الحكيمة للمسلمين ومشاورتهم والأخذ برأيهم الصائب وتوزيع الصلاحيات.
- الحرب خدعة وهو ما فعله الصحابي نعيم بن مسعود -رضي الله عنه- بالحيلة الذكية التي استخدمها مع الأحزاب.
- إنشاء أول مستشفى إسلامي حربي في غزوة الخندق بخيمة في المسجد النبوي لمداواة الجرحى برئاسة رفيدة الأنصارية.
- تغير موقف المسلمين من الدفاع إلى الهجوم بقوله عليه الصلاة والسلام ” الآن نغزوهم، ولا يغزونا، نحن نسير إليهم ” (صحيح البخاري ).
وبانتهاء غزوة الخندق بدأت الدولة الإسلامية في المدينة المنورة مرحلة جديدة وشاقة تسمى مرحلة الانتشار والفتوحات الإسلامية لانتشار الإسلام وإعلاء كلمة التوحيد ليس فقط في الجزيرة العربية بل في ربوع العالم المختلفة لتخرج من عنق الزجاجة وتبدأ عقاب أولئك الذين غدروا بالمسلمين ونقضوا العهد ليعلم الجميع أن انتهاك حرمات الأمة الإسلامية لا يمكن تجاوزه بدون عقاب وأن الإسلام كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام “الإسلام يَعْلُو ولا يُعْلَى عليه” (المحدث: الألباني – صحيح الجامع).