لا يحتاج القارئ إلى من يذكّره أننا في زمن السرعة، الزمن السريع بمخترعاته وآلاته وتقدمه وتطوره، سرعةً مجنونة، قد تكون من حسنات العصر المحمودة، أو سيئاته المذمومة، ولكنها على أية حال، أصابت الناس بما يمكن أن نسميه جنون السرعة، والحقيقة أنني لا أسوق هذا المقال لكي أتكلم عن نوع هذه السرعة، ولكني أريد الحديث عن نوع آخر من السرعة، هو سرعة انقضاء العلاقات بين الناس، العلاقات الإنسانية التي أصبحت أضعف من الثُمامة، وأرهف من الخيط، ولا أظن أن العلاقات بين الناس، ستفسد أكثر مما فسدت بهذا الزمان.
قد يقول قائل معتذراً، إن تعقيدات الحياة المعاصرة، وما خلّفته من اضطرابات وأزمات وهموم، تقلقل النفوس- مع ما يتسم به الزمن من سرعة- قد ألهت الناس وشغلتهم عن الالتفات لغيرها، ولم تدع لهم مجالا للإهتمام بشؤون القلوب، وما لها من مشاعر وعواطف، فهي قلوب معذورة. ولكن ذلك برأينا عذر قديم، يلقي التبعة على الزمن، ويبرئ من كان مذنبا أثيما.
إن القلوب الاهثة وراء مطالب الدنيا، أنساها جريُها المحموم الكثيرَ مما كان يجب عليها أخذه والحرص عليه، أنساها ما هو نفيس كان يجب عليها أن تشدَّ يدها عليه، وتضن به لو عقلت، ولكن السرعة مظنة النسيان والخطأ، وبها أصبحت القلوب عُمْياً، لا تهتدي إلى الصواب، بل أصبحت قلوباً سارقة، والسارق غالباً لا يتفكر ولا يتلبث، وإنما يخطف وينسل، وهذا أراه تشبيهاً طريفا، جاء في محله، فالكثير من القلوب اليوم، قلوب سارقة، لا يهمها إلا ما تناله أيديها وما تنتفع به جيوبها، فإن وجدت خيراً، مدَّت خيط مودتها ووصلته، وإن لم تجد، دسَّت المودة في التراب، وبترت خيط
العلاقة الواهية، وكأنما لم تكن هناك مودة ولا معرفة.
بمَ توصف تلك القلوب؟ وما هي الصفة الخليقة بها؟ ثمة صفة واحدة لا أرى غيرها موفقاً ولا صادقاً، هي صفة الضلال، وكيف لا تكون تلك القلوب ضالة، وقد خلّفت حياتها وراء ظهرها، وتبعت سبيل الموت والظلام المسكون بالوحشة والحيرة والبؤس، من حيث لا تشعر أن أقدامها تخوض متاهات الهاوية. لقد درس الباحثون في الدراسات الإنسانية، دراسةً طويلة، وبعدما طال بهم البحث والدرس، خلصوا إلى أن سعادة القلوب متمثلة في العلاقات الإنسانية الناجحة بين الناس، بمحيطهم الاجتماعي، وأنها المصدر الأساسي لجعلهم سعداء يشعرون بالسعادة، تحيط بهم من كل جانب، لا الأموال ولا المناصب ولا الجاه ولا الشهرة، ولا غيرها من متاع الدنيا.
وهل هناك أسعد من قلب يخفق بجانبه قلب، يشعر معه بالصدق والإخلاص والوفاء، وما الحب إلا هذه الصفات الثلاث، التي بها تحيا قلوب المحبين، وتعيش بسكينة وطمأنينة، عيشٌ تفتقده القلوب الأسيرة والمتعبدة للسرعة في زمن السرعة، القلوب التي جنّى عليها الليل، فأظلمت سماؤها فتاهت، وما عادت تبصر في ظلمائها، يا حسرةً عليها، وعلى كل ضال.
هدَّأ الله القلوب المسرعة، ورزقها التفاتاً إلى محطات السعادة، العامرة بالرَّوْح والريحان، لتأخذ منها زادها ووقودها برحلة سفرها، وثبتها على طريق الحق، وأنار سرائرها.