الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
يجسّد منهج الأخلاق اليوم وعلى مدى العصور الماضيةالمنهج القويم الذي من شأنه تنظيم حياة الفرد والجماعات،حيث أنه يتخذ من القيم والمبادئ الحسنة أساس تقوم عليه كل الحضارات الإنسانية، فإن ارتقت لما هو مرتفع من الأخلاق القويمة فقد حكمت على نفسها بالسمو الأخلاقي والتقدم الحضاري، وإن تخاذلت في التعاطي مع هذه القيم فمصيرها يقع تحت رحمة الانحلال الأخلاقي وتبعاته.
ولا يخفى على كل ذي لب ما شهدته الحضارات بمختلف مسمياتها من صولات و جولات مع منهج الأخلاق ، فقد كان الناس في الصين يتبعون كتابات الحكيم كونفوشيوسوذلك في القرن الخامس قبل الميلاد ، وكانت تدور هذه الكتابات حول التثقيف الذاتي لتحقيق السعادة ، أما في الهند فقد كانت فكرة الأخلاق لديهم تنحصر في الخلاص من الآلام عن طريق التحرر من الشهوات واتخاذ مسلك الزهد المفرط ، وفي اليونان كان يترأس منهج الأخلاق لديهم سقراط والذي كانت من أبرز مقولاته : اعرف نفسك بنفسك ، وقد لخّص السعادة في الحالة المعنوية التي تتحقق للإنسان حينما يلائم بين رغباته وبين ظروفه التي وُجد فيها ، بينما كان الأبيقوريون يسعون إلى تحرير النفس من أي التزام أخلاقي تجاه الآلهة والتي يرون أنها لا تهتم بالإنسان ولا تقرر مصيره ، بل تؤكد على الإنسان أن لا يشغل نفسه بفكرة الموت ولا يخاف منها حتى يعيش بسعادة دون قيود ، أما عن الرومان فلم يكن لديهم أي ثوابت دينية أو أخلاقية ، بل كانوا مغمورين في فرض سيطرتهم على الدولة وتحديد حقوق المواطنين وواجباتهم تجاه دولتهم. (جعفر،2013)
كل تلك الحضارات السابق ذكرها وغيرها من الحضارات لم تكن تستند إلى مصدر ديني صحيح يسقيها بتعاليمه الواضحة والتي تصب في مصلحة الناس، وإنما كانت عبارة عن أهواء متبعة وغرائز مُجابة بكل الطرق الممكنة التي يتساوى فيها الخلق المحمود والمذموم في آن معاً ، أما حضارة العرب قبل الإسلام فقد كان فيها من الأخلاق ما أتى الإسلام وقرر بعضها مثل الكرم والوفاء بالعهد وعزة النفس والحلم والأناة ، وحرّم البعض الآخر كالربا ولعب الميسر والزنا والعصبية القبلية وغيرها .
وفي ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله أن حال الناس قبل الإسلام يسوده الكفر والضلال وسوء الأخلاق، فقد كانوا إما كتابيين معتصمين بكتب لا يُعلم صحتها، وإما أميين لا يقرأون ولا يكتبون مقبلين على عبادات استحسنوها وظنوا أنها ستنفعهم ، كعبادة الأوثان وتتبع النجوم وزيارة القبور والتقرب إليها بأنواع من القربات.(1999، 74)
وهذا يؤكد على عظم شأن الإسلام، ونوره الذي أنار الله تعالى به الكون ونظم سيره بواسطة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حينما أرسى تعاليم الدين الحنيف وبلّغ العقائد وأوضح العبادات والمعاملات، ونشر الأخلاق والآداب التي تسمو بالمسلم نحو الفضيلة وهي رأس الأمر في إقامة الحضارة الإسلامية، وهو ما يندرج تحت الأسباب التي بُعث من أجلها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وهو إتمام مكارم الأخلاق كما قال عليه السلام : [ إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق]. (رواه البخاري وأحمد من حديث أبو هريرة وصححه الألباني). (ابن أبي الدنيا،1990، 6)
وفي ضوء ما سبق ؛ فإن المتأمل في الحضارة الإسلامية يجد أنها قامت على أساس أخلاقي رصين ، بما يحقق التماسك الاجتماعي بين الأفراد والجماعات الإسلامية ، ذلك أن اتباع الأخلاق الإسلامية واتخاذها منهج للحياة ؛ خير وسيلة لمواجهة مظاهر الانحلال الأخلاقي التي قد تفتك بالفرد والمجتمع إذا ما تخاذلوا عن اتباع ما تدعو إليه الأخلاق من فضائل وقيم .
وعن أهمية الأخلاق الإسلامية في حياة الفرد والمجتمع ؛ فإنها جزء وثيق من الإيمان والاعتقاد والشريعة ، وقد دل على ذلك آية في القرآن الكريم سُمّيت بآية البر وهي : ﴿ لَّیۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلۡبِرَّمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ وَٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ وَءَاتَىٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱبۡنَٱلسَّبِیلِ وَٱلسَّاۤىِٕلِینَ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَوَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَـٰهَدُوا۟ وَٱلصَّـٰبِرِینَ فِی ٱلۡبَأۡسَاۤءِوَٱلضَّرَّاۤءِ وَحِینَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ﴾ [البقرة ١٧٧]
اشتملت هذه الآية العظيمة على قواعد عامة ، وعقائد شاملة ، توضح الطريق لمن يريد اتباع ما شرعه الله تعالى من شرائع ، وما وصّى به عباده من الأخذ بالأخلاق القويمة، ليصل للإيمان القلبي الكامل بالأقوال والأفعال ، وذلك بأن يتقي المحارم ويفعل الطاعات وعلى رأسها التقوى . (ابن كثير ، 1998 ، 354)
إضافة إلى ذلك ؛ فقد ذكر السعدي (2005) أن جميع من عمل بهذه العقائد الحسنة ، والأعمال الإيمانية التي تورث في القلب نور لا ينطفئ ، ومن تخلّق بتلك الأخلاق التي تضفي جمالاً على حقيقته الإنسانية ؛ فإنه قد صدق مع الله تعالى واستحق الثواب في الدنيا والآخرة . (77)
واستحق كذلك السعادة نتيجة لتجمله بالأخلاق الحسنة التي ذكرت في الآية الكريمة وغيرها من الأخلاق، حيث أن من عظيم فوائدها :تنمية روح الخير في الإنسان المؤمن والتي تدعوه إلى الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه مجتمعه ، وتكوّن فيه الوعي بوحدة الحياة الاجتماعية وتعلقه به بحيث يكون عضو نافع لنفسه وللآخرين، كما أنها تسهّل عليه الانتظام الأخلاقي لتحقيق البناء الاجتماعي لدولته بحيث لا ضرر ولا ضرار، وكذلك فإنهاتعمل على تنمية روح الأخوة الإنسانية التي أكدت عليها النصوص الشرعية .(يالجن،2002، 133-161)
وتحقيقاً لذلك ؛ فقد قال الله تعالى : {إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةࣱ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَ أَخَوَیۡكُمۡۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ}[الحجرات:10] ، تشير هذه الآية إلى أن الله تعالى عقد عقداً بين المسلمين الذين يؤمنون بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، عقد يوجب الحب بينهم بحيث يحبون لبعضهم ما يحبونه لأنفسهم ، ويكرهون لبعضهم ما يكرهون لأنفسهم وفي هذا قال النبي ﷺ آمرًا بحقوق الأخوة الإيمانية: [لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا يبع أحدكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا المؤمن أخو المؤمن، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره]. (رواهمسلم من حديث أبو هريرة).(السعدي،2000، 800)
وهذا يؤكد على مسألة التماسك الاجتماعي، لأن المسلم متى ما تخلّق بالأخلاق الحميدة والقيم الحسنة في كافة تعاملاته مع إخوانه المسلمين بحيث لا يتجاوز عليه ولا على حقوقه ولا يبخس منها شيء، فإن ذلك كله يؤدي إلى قيام دولة إسلامية لا يتعدى فيها أفرادها على بعضهم البعض في أي جانب من جوانب الحياة.
أما عن مكانة الأخلاق وأهميتها بالنسبة للمجتمعات الإسلامية؛ فإن في اتباعها بناء سياج حامي للمنجزات الحضارية والتنموية للمجتمع الإسلامي من الانهيار، ذلك أنها تؤصل في الشخصية المسلمة مبادئ من شأنها حمايته ليس فقط من أجله وإنما من أجل الآخرين. (سعد الدين،2002)
ليس هذا فقط ؛ بل إن الأخلاق ضرورة من الضروريات التي لا يمكن لأي مجتمع أن يستغني عنها ،فبناءً عليها يتم ضمان الحقوق للجميع والتعايش في أمن واستقرار ، وتبادل المنافع والعلوم والمعارف على أساس متين ، وتكوين مجد عظيم إذا ما تم التعاون فيما بين الأفراد لرد أي محاولة لتشكيل صدع في البناء الأخلاقي الحضاري لأي مجتمع من المجتمعات الأخلاقية الإسلامية .(ابن أبي الدنيا ، 1990، 203)
وتلخيصاً لما ذكر ؛ فإن من المنطقي أن نؤكد على أن الأخلاق الإسلامية تحتل مكانة أولية في حياة الفرد المسلم وكذلك المجتمع المسلم ، حيث أنها توجيهات ومبادئ مفادها تقويم الخلق وتصحيحه من أجل صلاح الفرد والمجتمع ، ليصبحوا تحت نظام حضاري إسلامي قوي البنيان ، يستمد قوته من نصوص الكتاب والسنة ، ويتمثل بها في تعاملاته اليومية ، ليكسب الخير والسعادة في الدنيا والآخرة .
المراجع
القرآن الكريم
ابن أبي الدنيا، الحافظ. (1990) مكارم الأخلاق. بولاق: مكتبة القرآن.
ابن تيمية، تقي الدين. (1999) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم. بيروت: دار عالم الكتب.
ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر. (1998). تفسير القرآن العظيم، بيروت: دار الكتب العلمية.
السعدي، عبد الرحمن بن ناصر. (2000) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الناشر: مؤسسة الرسالة.
جعفر.، عبد الوهاب. (2013) فلسفة الأخلاق والقيم. الإسكندرية: دار الوفاء.
عبدالمؤمن سعد الدين، إيمان. (2002) الأخلاق في الإسلام النظرية والتطبيق. الرياض: مكتبة الرشد.
يالجن، مقداد. (1992) التربية الأخلاقية الإسلامية. الرياض: دار عالم الكتب.