يتّسِم العصر والمجتمع الذي نعيش فيه بأنّه عصر ومجتمع المعرفة والثورة العلميّة بتطبيقاتها الثقافية والتقنية المختلفة، والتي تتطلب من الإنسان الذي يعيش في هذا العصر أن يفكّر فيما يقول وينتقي الكلمات والعبارات والأفكار، وأن يقدمها بصورة مناسبة ومعقولة، كما يتطلب منه أن يفكر ويخطط لما سوف يقوله، حتى يتسنى له الاتصال والتواصل مع الآخرين، وذلك باعتبار أن هذا الإنسان كائناً اجتماعياً لا يستطيع العيش بمعزل عن الناس، ولا يستطيع العيش دون حالة الاتصال والتواصل المستمرة من خلال عمليات حوارية مختلفة.
والحوار يعدّ من أهم أسس الحياة الاجتماعية وضرورة من ضروراتها، فهو وسيلة الإنسان للتعبير عن حاجاته ورغباته وميوله وأحاسيسه ومواقفه ومشكلاته وطريقه إلى تصريف شؤون حياته المختلفة، كما أن الحوار وسيلة الإنسان إلى تنمية أفكاره وتجاربه وتهيئتها للعطاء والإبداع والمشاركة في تحقيق حياة متحضرة، إذ من خلال الحوار يتم التواصل مع الآخرين والتفاعل معهم.
من هنا نجد أن الحوار يعد ظاهرة صحية في المجتمع، وركيزة فكرية وثقافية، ووسيلة يستطيع الفرد من خلالها أن يوصل ما يريده من أفكار إلى الآخرين بالحجة والبرهان، ويعتبر الوسيلة الأسلم و الأسمى إلى الدعوة والتواصل مع الآخرين والتي دعا إليها الإسلام من خلال الآيات المختلفة الواردة في القرآن الكريم والتي منها قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[سورة النحل: 125]
وقوله تعالى {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [سورة العنكبوت: 46]
وقد وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة العديد من الصور الحوارية والتي يمكن أن نذكر بعضاً منها مثل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [سورة المجادلة: 1]
وقوله تعالى {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [سورة الكهف: 34]
وقوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [سورة الكهف:37]
كما أن السنة النبوية المطهرة تزخر بالعديد من الحوارات التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم طرفاً بالحوار فقد كان عليه السلام يحاور المشركين والمنافقين والصحابة وزوجاته حتى الأطفال كان لهم نصيب من حواراته صلى الله عليه وسلم وهذا تأصيل نبوي مطهر لخيرية الحوار منهجاً وسلوكاً.
ويكتسب الحوار أهميته البالغة في كون الوجود الاجتماعي الإنساني لا يتحقق إلا بوجود الآخر المختلف، ومن أن الإنسان لا يحقق ذاته الإنسانية ولا ينتج المعرفة إلا بالالتقاء والحوار مع الإنسان الآخر والتفاعل الخلاق معه، إذ به تتولد الأفكار الجديدة في ذهن المتكلم، وبه تتضح المعاني وتغني المفاهيم لأن الحوار في مستوياته العليا هو إنتاج المعرفة الراقية التي تتحاور مع كافة ضروب المعرفة الإنسانية.
ولكي تكتمل للحوار أسس نجاحه ويحقق أطرافه الأهداف التي ينشدونها من ورائه لا بد لهم من الالتزام بالمعايير الأخلاقية والاجتماعية والثقافية للسلوك التي تفرضها طبيعة الموقف والموضوع والأطراف المشاركة في الموضوع، وهذا الأمر لا يتم إلا من خلال تعزيز ثقافة الحوار ومهاراته لدى أفراد المجتمع.