Site icon صحيفة العربي الإلكترونية

“بين الطبّ والأدب” بقلم : د. منير لطفي


ليس بدْعا من القول: “إنّ المعارف الإنسانية كافّة تتناغم وتنسجم فيما بينها انسجام الحبّات بالمسبحة، والخيوط في الثوب، والألوان داخل اللوحة البديعة” . ولا شائبة في القول: “إنّ العلاقة بين الطبِّ والأدب متفرّدة تفرّد علاقات النسَب والمصاهَرة، حتى بات أيّها مَحْرَمًا للآخَر يلوذ بأكنافه ويحتمِي بحِماه..” وهذا القول الأخير تحديدًا، فيه من نصاعة شمس الظهيرة أكبر من أثَر، ومن سلامة الطرح أكثر من خبَر..
فإذا كانت وظيفة الأدب هي سبْر أغوار النفس، وفكّ طلاسمها، وتقويمها؛ فإنَّ مهمّة الطبّ هي العناية بالنفس، جنبًا إلى جنب مع رعاية البدن، وصولاً إلى حالة الكمال النسبيّ في السلامة البدنية والنفسية والعقلية والاجتماعية. وإذا كانت الكلمة الحانية الدافئة هي سلاح الأديب؛ فإنّها كذلك مِن ألزم  بضاعات الطبيب. وإذا كانت القراءة هي الحبل السّرّيّ للأديب؛ فإنّ للطبيب عليها جلَد يصون بها مبضعه من الصدأ وسمّاعته من الكلس. وإذا كان الأدب يستمدُّ خاماتِه ومفرداتِه مِن وصْف أطوار الحياة الإنسانية المختلِفة؛ فإنّ الطبيبَ هو أكثر مَنْ يُعايش هذا الإنسان الذي لا يجد حرجًا في التعرّي بين يديه بدنيًا ونفسيًا واجتماعيًا، وبالتالي هو الأقْدر على  وصف أطواره منذ الصيحة الهادرة في غرفة الولادة وحتى الحشرجة الواهنة على سرير العناية المركَّزة، ومن حمْرة تكسوه في فورة الشباب إلى صفْرة تعتريه حال الفناء. ومن هنا جاء اقتراح الطبيب الأديب سومرست موم، بأن يمارس كل أديب عملاً لبعض الوقت في مستشفى،  لتتعمّق خبرته البشرية أكثر وأكثر.
وإذا كان الطبيب يمضي بياض نهاره وسواد ليله وسط الأسِرَّة البيضاء أو داخل غرفة العمليات؛ يعدّ نبضًا، ويقيس حرارة، ويفحص ضغطًا، ويضمّد جرحًا، ليعالج الداء ويفتك بالمرض..فإن الأديب كذلك لا يَني في خلوته وسْط مكتبته وأمام منضدته؛ يجسّ نبض الحروف ويضبط حرارة الكلمات ويُضمّد العبارات ويَخيط الأفكار؛ ليَنسج رواية ويَغزل أقصوصة ويَسرد مقالة ويَسبك شعرًا؛ يُآسي بهم  قارئًا ذا روح متعَبة أو أمل كسير أو قلب جريح، تمامًا كما فعل سوفوكليس بالإغريق قديمًا، و يرناردشو بالبريطانيين زمن الحرب العالمية. وعلى هذا فإننا نستطيع إجمال القول في أنّ الطبَّ نصفه أدب والأدبَ كلُّه طبّ.
ويؤازر هذا التلازُم؛ ذلك الإسهام  الثريّ والكفّ النّديّ مِن قِبَل أطباء كثُر اقتحموا ميدان الأدب وبلغوا فيه شأوًا عظيمًا، حتى بلغ هيامُهم بالأدب حدّ العشق والصّبابة، فيمَّمُوا وجوههم شطره بينما وَلّوا ظهورهم للطبّ والدّواء؛ ربّما لأنّ معاناة الاشتغال بالكتابة الأدبية تبلغ مبلغ الداء ويصعب الجمْع بين الدّاء والدواء، أو ربما لأنّ مطاردة أرنبين في ذات الوقت هي قضية ليست ذات جدوى.
وبهذا الخصوص أذكر إبّان تحبيري لكتابي أطباء فوق العادة؛ كيف حلّت بي لعنة خراش حين أردتُ الكتابة عن عشرة من بين الأطباء الأدباء، إذا كانوا كالظّباء في كثرتهم، ولم أدْر ِأيّها أصيد وأيها أدع. بينما عانيتُ الكثير لأعثر على عشرة من الأطباء السياسيين، وكذلك الأطباء الدّعاة، إذ كانوا أندر من الحريّة في بلاد الضاد.
وقد يبدو للوهلة الأولى تضاؤل حظوظ الأطباء العرب من حيث الاشتغال بالأدب، نظرًا للقطيعة الطويلة والغربة القسْرية حيال اللغة العربية التي هي العمود الفقري للأدب، وذلك مع البدء في دراسة الطبّ المحتلّة في كلّ مراحلها بحروف اللغة الإنجليزية! إلّا أنّ الواقع لا يتوافق مع تلك المقدّمة المنطقيّة؛ فالأدباء من الأطبّاء العرب هم مِن الوفرة بمكان كفراشات بستان، إضافة إلى أنّ البعض منهم وصلوا إلى أعلى مراتب الأدب حين حجزوا لأنفسهم مقاعد دائمة في المجامع اللغوية التي يقوم على أكتافها حراسة عرين اللغة.. وبهذا تنتفي العلاقة الشرطية بين ما هو منطقي وما هو صحيح، فبعض ما يبدو منطقيا ليس بصحيح.
وقد نتراءى تضاربًا منطقيّا بين الطبِّ كمهنة تُعلَّم والأدب كموهبة تُوهَب، أو بين الطب كعِلْمٍ : غايتُه الحقيقة ووسيلتُه التجربة وأداتُه العقل، والأدبِ كفنٍّ: غايتُه الجمال ووسيلتُه الشعور وأداتُه القلب الذي يرتوي من نبع الخيال ومَعين الوجدان.. إلّا أنّ الشواهد بَرْهنَتْ على إمكانية المزاوَجة بين عقل العالِم الطبيب ووجدان الأديب الفنّان، وإنجابهما عُرْسا للحكمة ومتحفا للإبداع ولوحةً حافلةٌ بأبهى الألوان، وانظر في ذلك تزويج العلم بالأدب على طريق استكْناه المستقبل ضمن ما يُعرف بأدب الخيال العلمي، وتوظيف المعرفة الطبيّة في صياغة أدب شائق عند يوسف إدريس ومصطفى محمود وأحمد خالد توفيق فيما يمكن توصيفه بالأدب الطبّي..
وانظر في ذلك أيضًا، قول الشاعر التشيلي بابلو نيرودا: “عندما يُبدع الطبيبُ فنًّا، فإنه يكون الأجمل والأصدق والأدقّ، لأنّه لا يَتخيّل المعاناة البشرية، بل يَعيشها ويُعالجها”، وشهادة نيرودا  هنا أنفى للشكّ وأعلق باليقين؛ لأنّه أديبٌ من الطراز الرفيع الذي خطّ اسمه في سجلّات نوبل للأدب عام 1971م، واعتُبر أعظم شعراء أمريكا الجنوبية في القرن العشرين، وعُدّ أغزر الشعراء نظْما باللغة الإسبانية في العصر الحديث، علاوة على أنه اقترب جدّا من طبيبيْن خلّاقيْن هما صديقاه سلفادور أليندي وتشي جيفارا.
والثابت: أنّ الطبَّ وإنْ سكن فصَّ المخّ الأيسر الذي يُعرَف بالفصّ العالِم، لا يخلو مِن فنّ. والأدب وإن سكن فصَّ المخِّ الأيمن الذي يُعرَف بالفصِّ الفنّان، لا يخلو كذلك من عِلْم. بما يَعني تهافُت ما طرحه الروائي البريطاني (تشارلز سنو)، الذي شيّد في محاضرة له بجامعة كمبريدج، حاجزا أسمك من سدّ ذي القرنيْن، بين الاتجاهيْن العلمي والأدبي، وعدَّهما ثقافتيْن مختلفتيْن منفصلتيْن! بينما يؤكّد مصداقيّة ما سطّره وليّ عهد الأدب الروسي (أنطون تشيخوف) بقوله: علم التشريح والفنون الجميلة كلاهما نبيل، ويمتلكان أهدافا واحدة، ولا يوجد بينهما صراع من أجل البقاء. وهذا ما تبنّاه الفيلسوف البريطاني (آدم فيلبس) حين صرّح بأن التحليل النفسي جزء من لغات الأدب ونوع من الشّعر العملي، والطبيب الشاعر (ريكان إبراهيم)  بقوله: الطبّ هاجس كما الشِّعر، لأنّ كلّا منهما فنٌّ وفكر.. والهاجس –كما هو معروف في علم النفس- جمع جبري للعاطفة (الفن) والعقل (الفكر).
والواقع أنّ العلاقة بين الطبّ والأدب قديمة قِدم ما قبل الحارث بن كلدة الذي برع في الطبّ ونثر الحكمة ونظم الشِّعر، وابن سينا الذي تربّع على عرش الطبّ وصاغ بقلمه شعرا فلسفيا جيدًا. ثمّ توثّقت عرى تلك العلاقة، وبقيت علامة استفهام كبرى لا تغيب حين يحاضر الطبيب الأديب في جمهور  يسمع أو يشاهد، وفيها أسهب الحرف  وتشعّب القول، حتى إنّ بعضهم أفرد لذلك صفحات ذات أغلفة ومساجلات ذات أصداء. وفي الوقت الذي أَدلى بعضهم بقوله فيها منثورًا، فإنّ الشاعر الطبيب إبراهيم ناجي قد نظم قوله شِعرا بديعا، وضع فيه النقاط على الحروف، وجاء كجهيزة التي قطعَت قول كلّ خطيب، فقال:
“النّاسُ تَسألُ.. والهواجِسُ جَمَّةٌ،،،
طِبٌّ وشِعرٌ كيف يتَّفقانِ
الشِّعرُ مَرْحَمَةُ النُّفوسِ وسِرُّه،،،‏
هِبَةُ السّماءِ ومِنحةُ الديَّانِ‏
والطبُّ مَرْحمَةُ الجُسومِ ونبعُهُ،،،
مِنْ ذلك الفيْضِ العَلِيِّ الشَّانِ”
***

lotmonir@gmail.com

Exit mobile version