تتطلع الأنظار في مدن ومحافظات السلطنة إلى نقلة نوعية في التنمية وتحقيق استراتيجيات شاملة وخلق تصاميم مجتمعية مستدامة ومراكز حضرية لتعزيز الازدهار الاقتصادي وتنوع مصادر الدخل والاستثمار، وفي خضم هذه العجلة الإيجابية لابد لنا الالتفات للحياة الاجتماعية والتي تؤثر وتتأثر بشكل مباشر بأي شكل من أشكال التغيير في المجتمع.
فما هو الرابط بين التطور العمراني في المجتمعات المستدامة والتأثير الاجتماعي الذي ينعكس على المجتمع والناس من خلال هذا التطور؟ وهل حقا يمكن لنا التحكم في الحياة الاجتماعية من خلال التصاميم المستدامة للمجتمعات؟ وهل تؤمن عزيزي القارئ بأن سمعت الأماكن ترتبط بصفات أهلها وإن شكل المجتمع يعكس هوية ساكنيه؟!
توم كوزينز رجل الأعمال الشهير وهو صاحب أنجح شركات التطوير العقاري في أتلانتا بالولايات المتحدة، ولكن فكرة التطوير العقاري البحت لم تكن ترضي طموح توم الذي كان يسعى لتطوير حقيقي يشمل المجتمع بكل نواحيه، كان يعتبر إن ما يقوم به مجرد ضمادات للجروح في مجتمعه ، كان يبحث عن علاج حقيقي لمشاكل الناس بالمجتمع من خلال شغفه في التصاميم العقارية المستدامة، حتى استوقفته مقالة في صحيفة نيويورك تايمز عام 1993م تنص على أن 74% من الرجال في نظام سجون ولاية نيويورك يأتون من ثمانية أحياء فقط من المدينة ، وكانت النسبة الأعلى من المساجين تنتمي لأحد أسوأ هذه الأحياء وهو حي إيست ليك ، فكيف يمكن لكم أن تتخيلوا الوضع العمراني والاجتماعي في إيست ليك ؟!! شقق الإسكان العام غير صالحة بتاتا للسكن، نسبة عالية من الفتيات والشباب في السجون، معدل الجريمة 18 ضعف المعدل الوطني وكان من المحتمل أن تكون كل أسرة في هذا الحي ضحية لجناية كل عام ، أما المستوى التعليمي كان في أسوأ صورة ممكن لكم تخيلها حيث 5% فقط من طلاب الصف الخامس يمكنهم اجتياز اختبار الرياضيات في المنهج الحكومي و 30% فقط من الشباب تخرجوا من الثانوية العامة، كانت إيست ليك حقيقة مكان لا يوفر أي إمكانيات للحياة الإنسانية المتوازنة، وهنا آمن توم أن هذا الحي هو المكان الأنسب لبدء رحلة تغيير جذرية يقودها شغفه الصادق في تصميم مجتمع مستدام يبث روح التأثير الإيجابي في كل نواحي حياة إيست ليك، فكانت الخطوة الأولى هي إنشاء منظمة غير ربحية تحت مسمى “مؤسسة إيست ليك” وبمشاركة فريق عمل متخصص في كل المجالات لابتكار وخلق أنواع الحلول المختلفة التي من شأنها حل المشكلات المتعلقة بشتى جوانب حياة الإنسان في إيست ليك بدءً من السكن والتعليم الأساسي والجامعي والصحة وفرص العمل والاستثمار والتراث والسياحة، فكانت النتيجة مذهلة في إيست ليك بداية بانخفاض معدلات الجريمة 70% وانخفاض جرائم العنف بنسبة تزيد عن 95% ، كما وُضِعَت خطة متكاملة للمجتمع تضمنت إسكان عالي الجودة حيث حقق الإسكان العام نسبة أعلى بأربعة اضعاف ما كان عليه في السابق، أما بالنسبة للتعليم أصبح أبناء إيست ليك يتنافسون على أعلى مستويات الأداء في الولاية وتضم أفضل المدارس ذات الكفاءة في التعليم ، إضافة إلى أفضل المرافق والمراكز القيمة عالية الجودة، كما قام توم بتحويل مورد تاريخي يتمتع به الحي وإعادة تطويره ليصبح مصدر دخل دائم يدعم تطوير الحي تحت مسمى “مؤسسة مودا أتلانتا” إيمانا منهم إن بناء شيء للمستقبل أكثر أهمية بدلا من العيش في الماضي الجميل، فأصبحت مودا أتلانتا مورداً ملهماً للتصميم المستدام حيث يستخدم الإبداع لتشكيل المستقبل الواعد.
الأمثلة عديدة تلك التي تؤكد نظرية التأثير المتبادل والمفتوح بين الإنسان والأرض، بين المغروس والمحصود وبين المعطيات والنتائج، لابد لأصحاب القرار المتحمسين جدا لثورة تخطيط المدن المستدامة إشراك جهات أخرى غير المهندسين والمستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال لأن الأمر لا يتعلق فقط بالعمران والتخطيط، وإنما هو بوابة لمتضادين أولهم التغيير الواعي لكل أشكال الحياة بالمجتمع والآخر هو ديمومة لأصالة الأرض (التاريخ) والإنسان (القيم).
وهنا تحضرني مسميات كثيرة لقرىً ومدن اتسمت بالعشوائيات السكنية ووصفت بالفقر واقترنت اسماءها بالجهل والجريمة والبطالة وغيرها من القضايا المجتمعية الشائكة؟ ولكن وبعد فترة من الزمن تغيرت ماهيتها للأبد؟ لماذا؟!!! ربما لأن جامعة أنشأت في هذه القرية فأصبحت رافدا علميا وحضاريا أو لأن مركزا ثقافيا واجتماعيا أفتتح في أخرى فأصبح معيناً لا ينضب لأهلها أو لأن مكتبة عامة قُدر لها أن تكون سبيلا مفتوحا وأنيسا لشبابها، هكذا تتغير المجتمعات بشكل تدريجي وتأخذ شكلاً جديدا وهوية أصيلة تنعكس عليها من تصاميم منشآتها ومن التخطيط الذكي لإعادة تشكيل الرؤية بالصورة التي نستشرف بها المستقبل.