الغنى والفقر أحوال تعتري الناسَ في حياتهم الدنيا، ولا بد لهم أن يتقلبوا على حال منها، فيمر بهم
يومُ غنىً، ويومُ فقرٍ، يوما يمسي الإنسان وجيبه عامر ممتلئ بالمال، ويوما آخرَ يمسي وجيبه خاوٍ
يشكو الجوع.
وليست هذه المسألة التي أريد الحديث عنها، وتشغل بالي، ولكني أبغي الحديث عن سلوك الإنسان
وقت امتلاء جيبه من المال، ووقت خوائه منه، وهي حقا مسألة أخلاقية مقلقة، تدعو العقل إلى
التفكر العميق.
يقول الله عز وجل:( كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى)، ويقول تعالى أيضا:(فأما الإنسان إذا
ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي
أهانن).
الآية الأولى تصف الإنسان بالطغيان في حالة غناه، الغنى الذي يراه هو غنىً، أي بالمال واحتياز
الماديات، وما الغنى في الحقيقة كذلك، وإذا كان الرأي خطأً، فإن العمل والسلوك المترتب عليه لا
محالة خطأ أيضاً، فيكون من هنا سلوك هذا الإنسان التعالي والخُيلاء.
أما الآية الثانية، فتصف تصور الإنسان عن الكرامة والمهانة، أو بعبارة أخرى الغنى والفقر،
بالقياس إلى مقدار الرزق من حيثُ سعتُه وضيقُه- الذي وصفته الآية بالابتلاء في الحالتين- الرزق
الذي يعتبره الإنسان في المال فقط، فإن اغتنى منه فهو الغني الكريم، وإن افتقر منه فهو الفقير
المَهين.
ذلك كما ترى مفهوم الغنى والفقر في نظر النفس الإنسانية، المحكوم بسلطان المال، ولا شيءَ غير
المال، وجعل الفضل قاصراً عليه، ولا شيء في الحياة يذكر من فضائل الأخلاق والآداب والأعمال
الصالحات.
أليس هذا المفهوم مما له خطر شنيع على السلوك الإنساني، إذ يجعل النفس رهينة بيد المال، يقودها
كيفما يشاء، ويسيطر على أفكارها سواء ما كان من الأفكار خاصا بالذات، أو الآخرين، أو بالحياة
مطلقةً، والمتأمل في ثقافة عامة الناس، وحتى الخاصة، التي تبينها أفعالهم وأقوالهم، يلمس أثر ما
نقول واضحاً، ولا يحتاج إلى قول يوضحه.
إنه أثر يلعب في الأخلاق لعبا، ويفسدها أيَّ إفساد، انظر حولك، ألا ترى ذلك الذي اغتر وتبطر
واستعلى، حينما اغتنى بزيادة ما في كيسه حتى انتفخ، وبعبارة حديثة بزيادة ما في حسابه البنكي؟!
ألا ترى هذا الذي انكسر وذل وهان، حينما افتقر بأن غادره المال، وأدار له ظهره؟!
يا ويحنا، ويا رحمة الله علينا، علمَنا الله ما نجهل من حقائق الأمور، وأنار بصائرنا بضياء العلوم،
ما غنى الإنسان وفقرُه إلا بنفسه، وما قيمته إلا بذاته لا بما يمتلك، وذاتُه حَسَبُه الموصول بما يعتدُّ به
من أخلاق وصفات وقيم.
استمع لما قاله الرجل العظيم، من قديم، حاتم الطائي، ذلك الرجل الحكيم، طيب الله روحه وأكرمها
في كل جيل، وفي كل حين:
بُلينا زماناً بالتصعلكِ والغنى وكلٌّ سقاناهُ بكأسيهما الدهرُ
فما زادنا بَغْياً على ذي قرابةٍ غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
الله أكبر!! أشهد أن هذا قول رجل شريف حسيب، استطاع بخلقه الكريم، ورأيه السديد، أن يحل لنا
مشكلة أخلاقية، لا تكاد تسلم منها نفس إنسانية.