الحديث عن العسر واليسر، يثير في النفس شجوناً، ويهيّج مواطن الذكريات، هنالك حيثُ تغفو متخفية في بواطن النفس، قد اندملت، أو كذلك تُوهم الظنون، ولكنها باقية على اندمالها، مهما تطاولت بها الأيام، وما كان للذكريات عمرٌ، وجديدُها وقديمها سواءٌ في الحياة، ولو كانت الذكريات تموت، ما كانت ذكرياتٍ، إنها ذكريات ببقائها مستعصية على الموت، بضمير النفس الإنسانية، اللهم إلا إذا تسلَّط عليها النسيان، فمسح سواد سطورها، وطوى صفحاتها، إنه حينئذٍ سلوة نفس، ونعيم فؤاد.
لا يحس بقسوة كلمة العسر، إلا من تلظى بسعيرها، وقد قالت العرب من قديم: (ويلٌ للشجيّ من الخليّ)، العسر يقسو حتى يضيّق رحاب الصدر، ولو كانت فسيحة، وتلك لازمةُ العسر، بها يكون العسر عسراً، ولا بد في الحياة من ساعات عسر، وساعات يسر.
إنهما في الحياة قرينان، يتبع أحدهما الآخر، ولا يتخلف عنه بحالٍ، قد يتباطأ أحدهما، أو يمكث قاعداً، أو يتريث ماشيا، ويلبث كذلك كثيراً أو قليلاً، ولكنه لا محالة أن يلحق أحدهما بزميله، والحقيقة أنهما كشّافان للمعادن، يميّزان الصادق من الزائف، وبهما إما أن تَكْمل شخصية الإنسان، وإما أن تنقص، إما أن تعلو أو تسفل، وفقاً لجوهر الإنسان، ومكانه من الفضل والشرف.
هذان هما العسر واليسر، ألم ترهما بحياتك؟ ألم يحملهما قلبك؟ إن القلب الإنساني ساحة عسر ويسر، أما حمل القلب عسراً، أسَرَه ونفاه من حياة الأحياء، وقيّده حيثُ القلقُ والكرب والكآبة، وحيث لا حياة ولا نور؟.
أما حمل القلب يسراً، سرَّه وأضحكه، ونقله من جو الأرض إلى رحاب السماء، كريشة على صهوة مهب، وبسط له جناح السكينة، وكساه رداء السلام؟ أما حمل القلب أمثال هذا وذاك؟
لكن المشكلة التي تواجه النفس الإنسانية، أن إحساسها بالعسر، أكبر من إحساسها باليسر، ولذلك كان الحزن يغلب على الفرح، وأثره أبلغ، وكان شعوره أسمى وأشرف من شعور الفرح وأبقى منه.
إن عسرَ النفوس محتملٌ، يحتمله الرجال، وقد يشكون، ولكن شكواهم شكوى الرجال، وإن شكا الرجال فاعلم أن ثمة عسراً عظيماً، اللهم أنت الملجأ والمرتجى.
وإن اليسر مرتقب، ترتقبه القلوب المؤمنة الصابرة، يعينها على صبرها، إيمان راسٍ، إن زُلزلت الجبال، لا يزلزل، ترتقبه وبه تَقرُّ العيون والقلوب، وترمم ما تضعضع من أركانها وتهدم، واليسر شفاء يمسح الجروح الأليمة، ويجبر كسور المشاعر الحزينة.
يا ذا العسر، ترفق بنفسك، إن عسرك إلى حين، وسينقضي حتما عسرُك.
يا ذا اليسر، تمتع بيومك، ولا يغرنك يسرُك، واذكر ربك، ولا تنس نفسك.
أمطر الله على القلوب المعسرة، غيوث اليسر، تغسل ما بها من آلام وأوضار.
سبحانك يا من بيدك العسر واليسر، ولا راد لفضلك ولا مشيئتك، وأنت العليم الحكيم.