Site icon صحيفة العربي الإلكترونية

“آخرُ صورةٍ للقلبِ من الداخل” بقلم: أحمد الرديني

“إلى الغرفةِ الأخيرةِ من الزاوية” آخر جملةٍ قالتها لي الممرِضةُ ذاتَ الكِمامِ الأبيضِ المربوطِ بخيطٍ متمزّقةٍ أواخرِه من مشقّةِ العمل، أمضي ويدي تكادُ تَخنقُ قلبي مِن شدّةِ الألمِ اللذيذُ والغريب، ثمّ وقفتُ أمامَ مكتبٍ بابهُ خشبي عُلقّت في وسطهِ لوحةٌ غيرَ متّزنةٍ كُتِبَ عليها: طبيبُ القلبِ، فطرقتُ بابـه فأجابني بصوتٍ خفيفٍ حُبسَ خلف كِمامهِ الطبّي: تَفّضل!
:
كانتْ غرفةً هادئة، أضواؤها مَريحةٌ للعينِ، وسريرُها أبيض يَقع ( ناصِع ) غُيّرت لُفافته الورقيّة للتوّ لأن المريضَ الذي كانَ قبلي يبدو أنهُ عانى من نزيفِ الأنف الذي ظلّت قطراتهُ عالقةً بينَ الرخامِ الأبيضِ الراكضِ نحو الصفرةِ نظرًا لِقدمِ المبنى وأطبّائهِ الخبراء..
:
أيّها الطبيبُ العزيز، إنّ قلبي لم يَعد كعهدهِ السابِق أبدًا، نبضاتهُ متناقِضةً مختلفة، تارةً تبدو هادئة وتارةً تعدو كالخيولِ المُتسابِقة، يؤلِمني أحيانًا ويصمتُ أحيانًا وكأنّه فقدَ عمله، ورئتي على غيرِ عادتِها، فمرّة تُخرجُ رائحةَ ياسمينٍ أبيض ومرّة أشعرُ برمادٍ يفوضُ مِن حنجرتي! فهوّن عليّ رَحمكَ الله!

إلى الأشعةِ حالًا، هكذا أخبرني، فصّوروا القلبَ بِطرقهم المختلفة، ثمّ أخبروني بأن أنتظرَ النتيجةَ دونَ تعجلّ، أخبرني بهذا وعينهُ شاخصةٌ من التعجّب! ويردد غريبٌ عجيب! ومضى إلى مكتبِنا الهادئ ومضيتُ معه!
:
فقال: عزيزي أحمد، لقد كانَ قلبُكَ مُذهِلاً، تُحفَةً فنيّةً هائلة، كانَ البطينُ أشبهُ بغرفةِ رسمٍ إبداعية، لوحاتُ حبّ فنّية، وألوانُ رسمٍ فِردوسية، أمّا الأذينُ فكانَ كصالةِ المطاراتِ العالمية، كابتساماتِ المسافرين، كأحضانِ العائدين، كلمعةِ أينِ الأطفالِ المودّعين، كانَ شيئًا مذِهلاً، أمّا اختلافِ النبضِ فكانَت لهُ آثار أقدامٍ وخطوات، وكأنّ أحدهم كان يتجوّل فيهِ بينَ الحينِ والآخر، كان النبضُ أشبهُ بصالةِ رقصٍ خشبية، كانت صمّاماتهُ أشبهُ بأبواقِ ” أودين الفضّية” أشبهُ بمطرقةِ ” ثور ” الرعدية، أشبهُ بمزمارِ داؤود بن سليمان، أشبهُ بكلّ المعازفِ الموسيقية،
:
أما الأوردةُ فكأنها أنهارٌ مُلِئت بحبٍّ عظيم، كان الدمُ أشبهُ برائحةِ الياسمين، كانت ضخّة الدماء تساوي ثلاثينَ لترًا من مكعّباتِ المسكِ الغزالية، كان قلبكَ آيةً عظيمة، كان كلّ شيء أشبهُ بمعجزةٍ تحلّق بحمائمها بينَ الشرايين التاجيّةِ والشريانِ الأبهر، بينَ الوريدِ الأجوفِ السفليةِ والعلوية،
:
فكنتُ أبتسمُ بعدَ كلّ كلمةٍ قالها، كانَ يعلمّ كلّ شيء في الطّب وأدويتهِ، لكنّه لم يعلم أن جميعَ ما قالهُ كان تأثيرُ حبّكِ علي، ذلكَ التأثير الذي يعجزُ الطبُ عن فَهمهِ يا قلبي المُختلِف…

Exit mobile version