عندما تكون حرية التعبير قيمة أخلاقية تنشر الإحترام والتعايش بين الشعوب، تتراجع ثقافة الكراهية والصدام بين الثقافات لتتناغم سوياً في الميزان الحضاري، وتسود ثقافة الاعتدال التي تنبذ كل الممارسات التي تولِّد العنف والتطرف والعداء والتمييز، ولتحلِّق تلك الثقافة العالمية بأجنحة التسامح والسلام.
ما حدث في السويد والدانمارك من تدنيس وحرق نسخ القرآن الكريم، وتكرار ذلك دون حياء، كان مدعاة لخيبة أمل كبيرة عمّت الأوساط الإسلامية، في ظل تقاعس السلطات الرسمية هناك عن اتخاذ موقف رادع يَحُول دون تكرار تلك الممارسات الاستفزازية المشينة المخالفة للمرجعيات والمواثيق الدولية، بل واستمراء ذلك التجاهل من خلال تكرار منح التراخيص لأولئك المغرضين لحرق المصحف خلال التجمعات والمظاهرات، ضاربة عرض الحائط بردود أفعال الدول الإسلامية الـ 57، بما يضعها أمام اختبار حقيقي لرد الاعتبار، بردع هذه الازدراءات والاستفزازات، واتخاذ المواقف اللازمة إزاءها .
لذا جاء البيان الوزاري لمجلس وزراء خارجية الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الإسلامي شديد اللهجة في إدانته لدعوات الكراهية و”تكرار الاعتداءات السافرة على حرمة وقدسية المصحف الشريف في ستوكهولم وكوبنهاجن” عاصمتي مملكتي السويد والدانمارك، مع تلويح دول أعضاء المنظمة بإعادة النظر في علاقاتها مع الدول التي يتم فيها تدنيس وحرق نسخ من القرآن الكريم.
ولأن العقلية (البراجماتية) تنأى بنفسها غالباً عن مفاهيم سيادة القيم والأخلاق، بل ويؤمن بعضها بأهمية تكريس نظرية صراع الحضارات التي بشّر بها فوكوياما وهنتنجتون، ولأنها لا تستوعب إلّا لغة الأرقام في معادلة مصالحها الاقتصادية، فلعلنا نضع أمانينا على مائدة هذا البيان الوزاري الإسلامي الذي ننتظر أن ينتقل فيه التلويح إلى التصريح القابل للتطبيق، من خلال فرض عقوبات اقتصادية على أي دولة تستمرئ (منح تراخيص) للاعتداء على القرآن الكريم أو الإساءة بالأقوال والأفعال لرسولنا صلى الله عليه وسلم، تحت ذريعة (حرية التعبير)، ولتتحول تلك الدول إلى حاضنات لتفريخ الكراهية وتصدير التمييز والحقد، الذي تم تصنيعه لاستفزاز المسلمين فقط دون غيرهم!.
قد نتفهم دعوات البعض إلى تجاهل مثل هذه الحوادث المؤسفة ودفنها في مستنقعات التاريخ لتُمحى من شريط الذاكرة الجَمْعية للشعوب، ولكن هذا – في رأيي- ينطبق على سلوك الأفراد وحسب، أما حين يتم منح هؤلاء الشّذاذ تصاريح رسمية من دولهم، فذلك يستدعي التدخل الرسمي والشعبي الحازم في الدول الإسلامية لوأد مثل هذه الاختراقات المسيئة.
إن حرمان الدول المعتدية على القرآن الكريم أو المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، من سوق كبرى يتجاوز عدد مستهلكيها 1.7 مليار مسلم، كفيل باستنهاض برلمانات تلك الدول لتشريع قوانين جديدة تنسخ القوانين السابقة وتُجرِّم هذه الأفعال المشينة، وتردع فاعليها.
كما يمكن أن يكون لمنظمات المجتمع المدني في الدول الإسلامية دور مساند للمواقف الرسمية من خلال التحرك داخلياً وخارجياً لدعم إقرار مثل هذه القوانين الرادعة ووضع الضوابط القانونية التي تمنع إثارة المشاعر الدينية التي تعتبر الطريق الأسهل لنشر الكراهية والتعصب والعنف.
كما يمكن لمنظمات المجتمع المدني في العالم الإسلامي القيام بجهود مدروسة ومؤثرة لوأد ظاهرة “الإسلاموفوبيا” في الغرب التي يستثمرها اليمين المتطرف هناك لاستقطاب الناخبين من خلال الإساءة إلى الإسلام والمسلمين.
إن مثل هذه الأحداث المؤسفة التي باتت تتكرر في بعض الدول الغربية بدعوى (حرية التعبير) تشكل معاول هدم لجهود الأسرة الدولية في نشر التسامح والتعايش والحوار وقبول الآخر، والإعلاء من شأن الإنسانية وقيمها، كما قد تتيح هذه الأفعال المشينة الفرصة لجماعات التطرف والإرهاب لاستغلالها لتبرير أفعالها العدوانية واستقطاب مزيد من العناصر الإرهابية (الغضة) لتنضم الى تلك الشبكات الإجرامية، بما قد ينعش تلك الشبكات ويوفر لها البيئة الخصبة التي ترتع فيها لتعيث في الأرض فساداً وتخريباً في ظل الصراعات والأزمات التي يشهدها العالم كله.
فهل يتنبَّه عقلاء (العالم الديمقراطي) الى مخاطر قوانين (حرياتهم) المزعومة؟..
وهل يتنبَّهون الى ضرورة سن قوانين جديدة تُعلي من القيم الإنسانية باعتبارها الأرض الصلبة التي تتسع للجميع للعيش المشترك مهما كانت اختلافاتهم الدينية أو العرقية أو الثقافية؟.
هل يتنبَّهون الى أن القوانين المُجَرِّمة لتلك الأفعال الغاشمة هي أقوى أداة لسحب البساط من تحت أرجل تلك الطُّغم المنحرفة؟ ذلك ما نرجوه… والله الموفق.