في هذا اليوم سوف يتوقف قطار العمل الذي كنت أقوده منذ أكثر من خمسة وثلاثون سنة في مسار البنوك لمحطة التقاعد الأخيرة، وسأهبط منه إلى غير رجعة مُودعًا هذا المسار بشريطٍ من الذكريات التي كانت تجول في خاطري ..
في آخر هذه الأيام الجميلة التي كنت أتعجب فيها كيف استطعت أن أسير به في كل هذه السنوات مُرورًا بمحطات من التحدي والصعوبات والتقلبات الاقتصادية على المستوى المحلي والعالمي التي لن أتحدث عنها ولكنني أفكر في هذه المحطة التي توقفت فيها وماذا سأعمل لها ..
أولاً: فكرت في أن أبدأ بعملٍ خاص يساعدني على استغلال الوقت وزيادة الدخل الذي سوف يتأثر بقرار التقاعد رغم أني موظف بنك، وكنت أحسب كل خطوة قبل التقاعد جيدًا، ووجدت نفسي أفكر في الإستفادة من خبرتي في العمل الخاص، وهل سأنجح فيه مع الظروف الاقتصادية الحالية أم لا ؟
بعد الجلوس مع نفسي بتأنٍ وإستشارة أهل الخبرات وجدت أن العمل الخاص هذه الأيام يُعّد مخاطرة كبيرة، خاصة لمن ليس لديهم خبرة في هذا المجال وخصوصًا بعد تجارب بعض الزملاء، فقررت صرف النظر عن الفكرة تمامًا ..!
ثانيًا: فكرت بصراحة في أمور عديدة منها تقصيري في أمور الدين الذي كنت عليه جرّاء العمل المتواصل، بحكم أننا نحن موظفي البنوك دائمي الانشغال ولا نترك مكاتبنا إلا قبل صلاة المغرب..!
فوجدت أنه من الأفضل الاتجاه لله وطاعته واستثمار الوقت في تحسين العبادة ومحاولة التقرب من الله في هذه الفترة الأخيرة من العمر، كالخيول الأصيلة التي تتضاعف سرعتها في الأمتار الأخيرة لكسب السباق، وكانت بصراحة هي أهم خياراتي وأولوياتي في التفكير .
ثالثًا: فكرت في عائلتي التي قصرت معها مجبرًا بسبب ساعات العمل الطويلة في البنوك وكيف يمكن تعويضهم عن ذلك بعد التقاعد، ووجدت أنه يمكن عمل برنامج يعطي كل ذي حق حقه من الزوجة والأبناء والإخوان، وكيف يمكن إدخال السرور على مُحياهم ومحاولة رد الجميل على الدعم الذي وجدته منهم لأصل إلى مستوى وظيفي جيد في بنك من أكبر البنوك في المملكة. لذا قررت أن يكون هذا هو طريقي الثاني بعد الالتجاء لله والتفقه في الدين وعمل أعمال الخير ..
رابعًا: فكرت أيضًا في أقرب الناس لي بعد الأهل والأقارب وهم الأصدقاء المقربون الذين قضيت معهم سنوات طويلة لم تفرقنا أمواج الدهر ولا غيوم السنين، ووجدت أنهم يستحقون مني أن أخصص لهم وقت خاص للتقرب أكثر من السابق والتودد لهم ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم عن قرب وكان هذا طريقي الرابع.
وأخيرًا وليس آخرًا ، محطة التقاعد هي محطة لا أعتقد أنها محطة عمل ولكنها محطة تقرب إلى الله في آخر العمر ثم تقوية الأواصر العائلية ودعمهم بكل ما أملك كما دعموني سابقًا، ويأتي بعدها الأصحاب والأصدقاء لمراجعة وإعادة شريط ذكريات الصداقة والسنين الجميلة الراقية معهم.
خاطرة خطرت في بالي وأحببت أن أشارككم مضمونها وقد يختلف معي الكثير وهو حال البشر، والاختلاف لا يفسد للود قضية، وهي مشاركة مني بما دار في خاطري وفؤادي.