أتشرف بالكتابة إليكم، وهذه المرة سأتحدث عن أهم ما جاء في عهد سيدنا عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى أبو موسى الأشعري، والتي أستوفي فيها سيدنا عُمر شروط القضاء، والمتتبع لهذا المقال سيدرك أن هناك أمور كثيرة في هذا العهد العمري يجب على من يجلس للقضاء بين المسلمين أن يتحلى بتلك القيم الرفيعة، وأنا هنا لست في معرض التشكيك في نزاهة وحيادة القضاء ولكن من باب استقراء ذلك العهد وما فيه وتذكير لنفسي وللسادة القُراء بمعانيه السامية ودُرره البليغة، كذلك من باب نشر المعرفة، فالمعرفة هي روح الحياة، آملاً أن يجد القارئ فائدة ودليلاً يستهدي به في عمله، راجيًا قبول عذري لجهلي وقلة علمي، وللفرق الشاسع بيني وبين أمير المؤمنين في علمه وفهمه وبره وتقواه، ولذا أرجوا من القارئ الكريم أن يقيل عثرتي ويسد ما يجد من خلل وتقصير، لذا وبعد التوكل على الله أورد لكم أهم ما ورد في هذا العهد، كالآتي:
١- “إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة”: أي يجب أن تكون الأحكام التي يقضي بها القاضي إما أحكام فرضها الله تعالى في كتابه الكريم، أو أحكام سَّنها النبي الكريم، وهذا يوافق ما جاء في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة وسنة قائمة، وفريضة عادلة”.
٢- “فافهم إذا أدلي إليك”: وهنا يُشير إلى صحة الفهم وحسن المقصد، حيث يجب على القاضي أن يميز بين الصحيح من الفاسد والغّي من الرُشد والحق من الباطل، وهو ما يتطلب من القاضي أن يفهم الواقع ويتفقه فيه، وأن يفهم حكم الله الذي يجب أن يحكم به، وأن يبذل جهده وطاقته ويستفرغ وسعه في ذلك، ثم يأتي الأمر بشكل أكثر دقه حيث قال: “الفهم، الفهم، فيما تلّجلج في صدرك ما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة نبيه ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها”، وفي ذلك دعوة إلى الاجتهاد وفهم الواقع والأحكام وأيضًا دعوة لإعمال الحق وتوسيع المعرفة، والبحث والاستنباط وبذل الجهد للوصول إلى الحقيقة.
٣-” فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له” : وهنا يحرص سيدنا عُمر على حث القضاة على تنفيذ الحق متى ما فهموا الواقع وتوصلوا للحق إذ لا ينفع الحكم بالحق إن لم يكن له قوة تنفيذية، لأنه لا قيمة للأحكام ولا للبحث في الحقوق إذا لم يتم تنفيذ الأحكام وفي هذا عمق فهم للآثار السلبية للأحكام والقرارات القضائية التي تصدر ولا تنفذ لسبب أو لآخر.
٤-“وآس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك” : وهنا توجيه بالعدل والمساواة بين الخصوم في مجلس القضاء، ولعل السبب واضح من ذلك حيث ذكره سيدنا عمر في عهده، حيث جاء: “حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك”.
٥- البينة على من ادعى واليمين على من أنكر: إذ يجب على المدعي أن يأتي ببينة على صدق دعواه، فالقاضي لا يحكم إلا بثبوت الحجة التي ترجح الحق بشرط ألا يعارضها مثلها، وذلك لن يتأتى إلا حينما يدرك القاضي الواقع تمام الإدراك وأن يحكم فيه بما يجب ليدور مع الصدق والعدل، وهذا المبدأ أقرته النظم الوضعية الحديثة والتي تلزم المدعى بإثبات دعواه وتقديم حججه وأسانيده وإذا قصر في ذلك فيتحمل تبعة تقصيره، كذلك فإن اليمين واجبة على من ينكر الدعوى.
وقد تكون حجة المدعي غائبة ويود منحه أجلاً لإحضارها، وهنا يجب على القاضي منح الأجل لمن يرى أنه محق في طلبه، أما أن تبين له أن معاند ومكابر فلا يمنحه أي أجل بل يقضي بما يراه مناسباً.
٦- والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً: وبلا شك فإن الصلح خير ولقد ورد ذلك في كتاب الله وسنة نبيه الكريم، وهو أمر مندوب إليه حتى في الدماء، وللصلح شروط يجب التقيد بها أهمها أن لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالاً، كذلك فلا مدخل للصلح في الحدود والكفارات ولا تكون في إلا في حقوق البشر لأنها هي التي تقبل الصلح العادل الذي أمر الله به.
٧- “ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق” : فالحق أولى أن يُتبع ولذلك فاجتهاد القاضي لا يجب أن يكون مانعًا من العدول عنه متى ما ظهر له الحق، لأن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. وفي هذا نهي عن التشبث بالباطل والاعتداد بالرأي، فالعودة إلى الحق خير من الاستمرار في طريق الباطل، وفي القوانين الحديثة ُحددّت مراحل لنظر الدعوى وبِموجبها ينتقل نظر الدعوى من مرحلة قضائية لمرحلة قضائية أعلى، وما ذاك إلا لحرص المشرع الوضعي على اتباع هذا النهج لأجل إحقاق الحق وهو ما يجعل للأحكام القضائية الإحترام والتقدير الواجبين لهما.
٨- “والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه بشهادة زور أو ظنينًا في ولاء أو نسب” : فالمسلمون عدول بعضهم على بعض، ولعل سيدنا عُمر بيَّن شروط الشهادة وممن تقبل وممن ترَّد.
٩- “ضرورة إخلاص النية لله”: حيث قال سيدنا عُمر في عهده: فإن الله عفا عن الإيمان ودرأ بالبينات.
١٠-” وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصم” : وهنا حكمة يجب التقيد بها وهي الصبر في مجلس القضاء لأن الغضب والتأفف والقلق تحول بين القاضي وتمام المعرفة بالحق، ولربما يعدل عن العمل بالحق لحظة غضبه.
١١- المسؤولية أمام الله: جاء في عهد سيدنا عمر: “فمَن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه”، وفي هذا إشارة إلى أنه لا يكفي قيام القاضي في الحق إذا كان على غيره، بل يجب أن يقوم بالحق على نفسه أولاً حتى يتمكّن من إقامته على غيره، وفي هذا تنبيه لعِظَّم المسؤولية أمام الله وأن على القاضي أن يبدأ بنفسه بإخلاص نيته لله لنيل ثواب الله ورزقه وخزائن رحمته.
غفر الله لوالدنا ولجميع موتانا وموتى المسلمين، وأيّد سلطاننا هيثم بالقوة والعلم والفهم والحق وأيّد به الحق، وحفظ عُمان وأهلها ومن يقيم عليها وجميع بلاد المسلمين.
وإلى لقاء قادم بإذن الله وعُمان ترقى بالعلم والعمل الدؤوب واهلها يرفلون في ثوب العزة والكرامة والخير.