لما أراد الله سبحانه أن يصف نبيه محمدًا ﷺ اختار له صفة عظيمة متعلقة بذاته جل وعلا، فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
لقد كان ﷺ كما وصفه ربه رحمة للعالمين؛ كان ذلك الإنسان الذي تفيض روحه محبة وسلامًا للعالمين. وليس من باب المبالغة القول إن البشرية لم تعرف قلبًا رحيما مثل قلب محمد ﷺ. والمتأمل يرى أن مكانة النبي ﷺ وتقديره ومحبته عند شعوب العالم في تزايد مستمر، خصوصًا عند أهل العلم والإنصاف.
وقد أدرك ﷺ منذ الأيام الأولى للبعثة مقدار الجهد الذي ينبغي أن يبذله مع أهله وعشيرته، واستحضر في هذا المقام التوجيهات والأوامر الربانية التي تدعوه إلى العناية بأهله وقرابته، قال تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: 26].
فعمل ﷺ على ترجمة حبه وعنايته بأهله وعشيرته إلى مواقف عملية، سنقف على ثلاثة منها:
الموقف الأول: حدث في بدايات الدعوة، عندما دعا أهله وقرابته من بني هاشم وعرض عليهم الإسلام، فلم يجبه منهم إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومع ذلك فقد دأب ﷺ على نصحهم وتذكيرهم بالله عز وجل، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ لبني عبد المطلب: «يا بني عبد المطلب، اشتروا أنفسكم من الله، يا بني هاشم، اشتروا أنفسكم من الله، يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم من الله، يا أم الزبير عمة رسول الله، ويا فاطمة بنت محمد، اشتريا أنفسكما من الله، فإني لا أملك لكما من الله شيئًا، وسلاني ما شئتما». (أحمد: 8601، قال الأرناؤوط: صحيح).
الموقف الثاني: عندما نزل قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] صعد النبي ﷺ على الصفا ونادى في بطون قريش، ثم دعاهم للإسلام. فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد النبي ﷺ على الصفا، فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي» لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو. فجاء أبو لهب وقريش، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب} [المسد: 1-2]. (البخاري: 4770).
لقد كان ﷺ حريصًا على إيمانهم حرصًا لا يمكن تصوره. قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
وقال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6].
الموقف الثالث: حرصه الشديد على إسلام عمه وسنده أبو طالب، فقد كان يترجاه أن يقول: لا إله إلا الله، حتى يشفع له بها عند الله عز وجل. عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ فقال: «قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله». (البخاري: 6681).
إن المواقف السابقة ما هي إلا إشارات إلى مدى عناية النبي ﷺ بأهله وعشيرته، وإلا فالسيرة النبوية غنية بالمواقف والأحاديث التي تؤكد ذلك. فعن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي». (ابن ماجه: 1977، صحيح).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه». (البخاري: 2067).
ولذلك فالمؤمن مطالب بأن يحسن إلى قرابته وعشيرته في المقام الأول، لأنهم رحمه، والله سبحانه وتعالى سائله عنهم يوم القيامة. ومن أعلى مراتب الإحسان حثهم على الصلاح، ومكارم الأخلاق.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].