منذ أن تسلّل مفهوم “التربية الحديثة” إلى بيوتنا، انقلب المشهد التربوي رأسًا على عقب.
تحت شعارات برّاقة مثل: “الحرية”، “التعبير عن الذات”، و”تعزيز الثقة بالنفس”،
نشأ جيل لا يعرف الحدود، ولا يعترف بسلطة سوى رغبته.
أطفال بوجوه بريئة… لكن بألسنة جارحة، وبنفوس لا تحتمل الرفض، ولا تفهم معنى الخسارة.
تحوّلت الأسرة في كثير من البيوت من كيان يُعلّم، يُقوّم، ويضع القواعد…
إلى هيئة استشارية خجولة، تخشى كسر مشاعر طفلها، فتتراجع، وتُساير، وتبرّر.
وصار الوالدان يُربّيان بخجل، وكأن الطفل قاضٍ يحكم على سلوكهما، لا العكس.
نعم، الزمن تغيّر.
لكن هل القيم تتغيّر؟
لقد نشأنا على يد آباء وأمهات لم يعرفوا شيئًا عن “الذكاء العاطفي”،
لكنهم علّمونا الأدب، والاحترام، وعلّمونا أن للكبير وقارًا لا يُمس.
كانوا صارمين، نعم. وربما أخطأوا أحيانًا،
لكنهم ربّونا لا برعبٍ، بل بوضوح… بحدود رسمت شخصياتنا،
وعلّمتنا أن الحياة لا تدور حولنا وحدنا.
تشير دراسة صادرة عن جامعة ميشيغان (2016) إلى أن غياب الحدود الواضحة في التربية
يزيد من فرص السلوك العدواني لدى الأطفال، ويُضعف قدرتهم على التعامل مع الخسارة أو الإحباط.
كما حذّرت مجلة Psychology Today من أن التركيز المفرط على الطفل كمركز للكون
قد يؤدي إلى شخصية نرجسية، مشوّهة في وعيها الاجتماعي.
هذا ليس رفضًا للتربية الحديثة من جذورها،
بل رفضٌ لسوء فهمها.
الاحترام لا يعني الخضوع،
والحب لا يعني التنازل،
والحرية لا تعني الفوضى.
حين نخلط بين هذه المفاهيم، لا نمنح الطفل حرية… بل نمنحه فوضى داخلية يُعاني منها طيلة عمره.
آن الأوان أن نُعيد التوازن.
لسنا بحاجة للعودة إلى الماضي بكل قسوته،
لكننا بحاجة ماسّة إلى بوصلته.
إلى ذاك الوضوح في الأدوار، والجرأة في التوجيه،
والحزم المُحبّ الذي يصنع رجالاً ونساءً حقيقيين.
الطفل لا يحتاج فقط إلى الحب…
بل إلى من يضع له حدودًا تحميه من نفسه،
وتفتح له طريقًا نحو احترام ذاته والآخرين.
في النهاية… نحن لا نُربّي لنُرضي، بل لنُعدّ.
والتربية ليست نزهة…
بل مسؤولية تُشكّل مستقبل أُمّة بأكملها،
أو تهدمه، حجرًا فوق حجر.